حادثة الإسراء والمعراج تؤكد قدرة الله القادرة وقوته القاهرة التي تقول للشيء كن فيكون، فهو سبحانه يفعل ما يشاء بقدرته ولا يحتاج إلى أحد من خلقه وهو الصمد.
ولا نملك أمام هذا كلّه إلا أن نرفع الصوت بالتسبيح والثناء على الله تعالى بما هو أهله، وهذا ما استهل به القرآن الحكيم في الحديث عن هذه المعجزة حيث قال تعالى: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير "
والتسبيح هو نوع من التَّرقي والصعود للمسبِّح ينال به الأجر العظيم والثواب الجزيل ويستحق به نصرة مولاه –سبحانه وتعالى- ، يقول الله تعالى عن سيدنا يونس –عليه السلام- " فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون"، ويقول النبي – صلى الله عليه وسلم: " سبحان الله تملأ الميزان".
وتُحاكَمُ هذه الحادثة إلى قدرة الله تعالى وليس إلى قدرة أحد من خلقه، فهو سبحانه الذي أسرى، والنبي –عليه الصلاة والسلام- لم يَسْـــرِ بنفسه، وإنما أُسريَ به، وفي لغة العرب يستعمل الاسم الموصول " الذي " للإشارة إلى أنّ ما بعده سببٌ لما قبله، فالإسراء هو سبب التسبيح.
وتطرّق النص القرآني الكريم إلى صفة العبودية للإشارة إلى أنّ العبودية الخالصة هي استحقاق إكرام العبد من ربه سبحانه وتعالى، وعندما تكون العبودية على بابها فإنها أسمى المطالب وأعلى المنازل، وهنا نفرِّق بين العبودية والعبادة، فالعبادة هي فعل ما يرضي الله تعالى والعبودية هي الرضى بفعل الله تعالى،.
وممّا يؤكد أنّ كلمةالعبودية منتقاة ومختارة بدقّة أنها وردت في الآيات الأولى من سورة الإسراء ثلاث مرات، وهي: قوله تعالى: سبحان الذي أسرى بعبده ... " وقوله: " ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكورا" وقوله سبحانه" فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا ... " ، وقد لمس الشاعر هذا المعنى عندما قال:
وممّا زادني شرفاً وتيهاً ،، وكدت بأخمصي أطأُ الثّريّا ،، نزولي تحت قولك يا عبادي ،، وأنْ صيّرت أحمد لي نبياً ،،
أما أنّ معجزة الإسراء والمعراج حدثت ليلاً فهو أمر يدّل ويشي بأنّ الليل هو أُنْس قلوب المحبين، وراحة أنفس المتقين، قال تعالى: " إنّ ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً " ، فإذا كان الليل عند الكثيرين ظرفاً للنوم والسهر، ومسايرة الشهوات فهو عند الأولياء الصالحين راحة للنفوس وأُنس للقلوب وصلةٌ بعلّام الغيوب.
وإنما جاء النص القرآني على أنّ المعجزة حدثت ليلاً مع أنّ السُرى بذاته إنما يكون بالليل فذلك للإشارة إلى أنّ الحادثة تمّت في جزء من الليل، ولم تستغرق الليل كلّه.
أمّا مسار هذه الرحلة الربانية المباركة فقد ابتدأ بمسجد وانتهى على الأرض بمسجد، ثمّ ختم في السماء بمسجد وهو " البيت المعمور" ، وفي هذا إشارة إلى أهمية المساجد في حركة الحياة، وأنّه يُؤَمَّلُ فيها أنْ تكون دوماً منطلقاً لأعمال الخير والتقوى.
وخصوصية المسجد الحرام في هذه الحادثة لا تخفى، إذ هو أول بيت وضع لعبادة الله تعالى على وجه الأرض، يقول تعالى: " إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين "، وفي هذا يقول الشيخ الشعراوي – رحمه الله - : " إنّ الأولية لبيت الله الحرام جعلت له الأولوية " فكلّ بيوت الله تتجه في قبلتها إليه.
والزائر لبيت الله الحرام يحسّ بمستوى الرعاية الإلهية لبناة البيت العتيق، فمقام ابراهيم الخليل –عليه السلام- وهو موطئ قدميه هو المكان الذي اختصه الله بأنْ يُتخذ منه مصلىً، إذ يقول سبحانه: " واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى " وقد حلّت البركة في أرجاء مكة بعد بناء هذا البيت، حيث صارت تجبى إليه ثمرات كلّ شيء، وعمّ الأمن والإيمان أرجائها.
أمّا المسجد الأقصى المبارك الذي ذكرته آيات الإسراء فهو قبلة المسلمين الأولى ومسرى نبيهم – عليه الصلاة والسلام -، ومعراجه إلى السموات العلى، وأرضه أرض المحشر والمنشر، ومعلوم أنّ القبلة الأولى جعلها الله تعالى محكّاً للعزائم، يتبيّن فيها صدق الصادقين وإيمان المؤمنين، قال الله – عز وجل -: " وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه "، فقد فتحها النبي –صلى الله عليه وسلم – فتحاً روحياً، وفتحها الفاروق عمر – رضي الله عنه – فتحاً مادياً عندما قاد جيوش الفتح الإسلامي بتحريرها من أيدي الرومان، وحرّرها صلاح الدين الأيوبي بعد احتلال صليبي دام ما يقارب قرناً من الزمن، وهي تنتظر اليوم من يخلّصها من قبضة الصهاينة المحتلين، ولا شكّ أنّ هذا الأمل حاصل بإذن الله تعالى الذي قال: " فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرّة وليتبروا ما علوا تتبيراً ".
وليس من نافلة القول أنّ بركات الله سبحانه عمّت بيت المقدس وما حوله من البلاد بالأنهار والثمار، وبالثبات أيضاً على الحقّ ، يقول عليه الصلاة والسلام: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ، لا يضرّهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" قلنا: أين هم يا رسول الله؟ قال: " في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس ".
ولذا فإننا نستبشر بنصر من الله وفتح قريب يُعيد الحقّ إلى نصابه، والأرض المقدسة إلى أهلها.
وصدق الله القائل " ويقولون متى هو قل عسى أنْ يكون قريباً "