بات الأمن التربوي(Educational Security) ضرورة ملحة لكل أمة حية، حيث يشكل قوة و منعة في الاستقرار والأمن الوطني ، ويعد الأمن التربوي الحاضن الرئيس للأمن و الأمان الفكري. كما تنبع أهمية الأمن التربوي بما يحمله من مسؤولية رفيعة في تكوين المستقبل و صناعة الأجيال وتشكيل المنظومة القيمية والمعرفية والمهاراتية لجميع أفراد المجتمع.
يقصد بالأمن التربوي أن لكل أمة أفكارها التربوية النابعة من قيمها وثوابتها العقدية والفلسفية ، والتي تصوغ هويتها وتشكل شخصيتها ، حيث تستطيع الأمة أن تحصن و تقي نفسها من خلال ثوابتها التربوية مخاطر الأفكار الهدامة ، والنظريات الوافدة ، فلا تكون عرضة لتغيير عاصف يشتت الملامح ، ولا تستجيب لأي تبشير هدام يتسلل تحت ستار التجديد والتطوير و مواكبة العصر .
هناك فرق شاسع و بون واسع بين الانفتاح على ثقافات الآخرين والنهل من ينبوع المعرفة ، وبين الاستجابة العمياء لأي فكر ، فإذا كان من الضروري أن تفتح الأمة نوافذ ذهنها و عقليتها وفكرها لكل ما هو إيجابي و مفيد ، فإن من الحمق المؤدي إلى الهلاك أن تشرع أبوابها للرياح العاتية التي تهدد جذورها بالاقتلاع وتنذر وجودها بالتلاشي . إن التمايز الحضاري مختلف تماماً عن الانغلاق أو العداء الحضاري ، فقد أثبت التاريخ الإنساني أن هذا التمايز لم يمنع من التقاء الحضارات وتفاعلها ، حيث أن في الفكر الإنساني الكثير من القواسم المشتركة بين الأمم ، لكن لا بد لكل أمة أن تقدم تصوراً تاريخياً عن نفسها وتصوراً للعالم من حولها،ورؤية مستقبلية تعبئ جهودها ، إن الأمة هالكة لا محالة إن لم تفرق بين التفاعل الحضاري والغزو الحضاري.
يذهب بعض الخبراء التربويين بأن مفهوم الأمن التربوي يجب أن يعمل على تحصين الذات ضد التيارات الوافدة ، وإلى توفير الدعم للعاملين في الحقل التربوي ، والاستجابة لمطالبهم المشروعة ، وتحسين ظروفهم المادية والمعنوية من دون أن يعني هذا عدم الأخذ بمبدأ المحاسبة.
إن النزوع إلى التجديد حق طبيعي ، بل من واجب الأمة الأخذ بالأسباب ، والمناضلة من أجل البقاء والارتقاء ، و التمادي في تجديد الفكر والإنتاج ، وعلى الأمة أن تميز بين الغثّ والسمين، و بين الصالح والطالح ، وعلى الأمة أن لا تنظر إلى التجديد و التطوير الحقيقي نظرة مشوبة بالتوجس والقلق ، فبدلاً من أن تشرئبّ إليه النفوس وتعقد عليه الآمال ، تُظن به الظنون وتثار من حوله المخاوف .
يتأثر الأمن التربوي بعدد من المؤثرات تحدث تبايناً في الاتجاه وفي الشكل وفي الفلسفة من أهمها العامل التاريخي حيث إن لكل أمة تراث وميراث تاريخي يؤثر في فكر وعقائد شعبها وينظم نمط الحياة فيها، ويكون ويبلور مخزون القيم الجوهرية، و منها العامل الجغرافي الحاوي للموقع الجغرافي والإستراتيجي والمساحة والموارد والسكان والتركيب السكاني من حيث النوع والدين واللغة ، وأخيراً العامل الأيديولوجي و العقدي و الديني .
إن التربية العربية تواجه خطر داهم مرده إلى اضطراب الفلسفة التربوية نتيجة لعدم تحديد الفلسفة الاجتماعية تحديداً واضحاً مما يلقي الاضطراب بدوره على السياسة والاستراتيجيات والخطط التربوية، وتربية هذه حالها لا تستطيع الاضطلاع بمهمة حماية الطالب العربي من الآثار السلبية وإرهاصات العولمة ، خصوصاً أنها لم تفلح بعد في النهوض بمهامها المجتمعية الرئيسة.
إن الأمن التربوي منظومة من الاستراتيجيات تتكامل و تتفاعل فيما بينها وتؤثر كل واحدة في الأخرى وتتأثر بها . ولا تجدي رؤية تربوية مستقبلية كإستراتيجية أمنية من غير طمأنة للأمة بأن هذه الرؤية لا تعني نسفاً لما بناه الأولون ، وإنما هي تأسيس عليه وانطلاق منه لتطوير الواقع واستشراف المستقبل .
لا بد من التأكيد على الهدف الأساسي للأمن التربوي العربي وهو حماية الوطن و الأمة ، والتحصين ضد التحديات العالمية والمحلية التي تهدد أمن وسلامة الأمة . ولا بد من أن تضع في الحسبان جميع المؤسسات التربوية النظامية وغير النظامية مسؤولية تحقيق الأمن التربوي في المجتمع العربي مع ضرورة بناء الفلسفة التربوية على أسس المرجعية العربية الإسلامية، فيجب أن تشتق الفلسفة التربوية للمجتمع من المصدر الفكري أو الأيديولوجي، أو العقائدي، الذي يستوحي منه المجتمع مبادئه وأهدافه ومعتقداته التي توجه نشاط أفراده.
أعرف أن الكثيرين منكم لم يعد يؤمن بالعمل الجماعي العربي في هذه الأيام ، لكن أعتقد انه لا بد من تأسيس مركز عربي للأمن التربوي يهدف إلى حماية الأمة من الأخطار دون نكران أهمية التجديد التربوي مع ضرورة تحديد مساراته المفيدة ،ويجب التأكيد على المواءمة والحفاظ على الهوية العربية، فإن عملية الحفاظ على الهوية لا تنفي أهمية الانفتاح على المواد الإيجابية في الحضارات الأخرى في إطار من التوازن، كما أن الحفاظ على الهوية لا يعني الجمود ، بل هو عملية تتيح للمجتمع أن يتغيّر ويتطور دون أن يفقد هويته الأصلية، وأن يتقبل التغيير من دون أن يغترب ، إنه التفاعل الإيجابي بما يتفق مع مناخنا وأرضيتنا وتربيتنا ، كذلك يجب أن يراعي المركز المقترح ضرورات الأمن التربوي ومقتضياته من الاعتماد على الذات في إنتاج الخيرات الفكرية والتربوية. ومن جملة أهدافه أيضاً إيجاد استراتيجيات فعالة لمواجهة الأفكار الهدامة ، والقيام بالدراسات والبحوث المتعلقة بحقل الأمن التربوي.