بدأ الإنسان معارفه وهويتعلم بطريقة الهجوم والدفاع ,ثم التجوال والبحث عن الغذاء والمأوى,ثم التجربة والخطأ , والمحاولة التي أصابت مرة وأخطأت غيرها , والاستنتاج الفطري للنتائج التي تمخضت عنها تجاربه وخبراته وكانت دوافعه التي تحفزغرائزه تتلخص في :- كيف يحمي نفسه من أعدائه في الطبيعة, وكيف يحصل على احتياجاته الأساسية منها , وكيف يطوع ما يمكن له تطويعه منها ليستفيد منه في كفاحه من أجل البقاء. وبنفس هذه المناهج تملك الإنسان معارفه حول ما يحيط به من ظواهر وحول ما يفيد منه كغذاء يقيته ويقيه شرالجوع والعطش , وما يكتسي به اتقاء لشرورالحروالبرد وتقلبات الطقس , وما يسكن إليه من مأوى يعززمن رغبته في الحفاظ على ممتلكاته وعلى خصوصياته .
وتعلم الإنسان فيما بعد أهمية نقل معارفه وتوريث خبراته إلى أجياله اللاحقة , وابتدع أساليب التعلم والتعليم وانتهج تحويلها إلى مؤسسات إدراكا ً منه بأهمية التعلم والحصول على المعرفة إخلاصا ً منه إلى وارثي الأرض من الأجيال المتتالية ووفاء لهم لتجنيبهم عناء التجارب فيما تم تجريبه , وتسهيلا ًله لاستكمال حاجات مهنة العلم والتعلم , فأتقن فنونها وأصبحنا اليوم في عالم يصنع العلم مقوماته ومعارفه وبما تعجزعن توقعه طاقة عقولنا ويتفوق على قدراتنا الاستيعابية والإدراكية .
وبعد أن أصبح مبتدأ التعلم القراءة , ومثناه الكتابة ,جهدت الدولة في تعميم مدارس محو الأمية , وفتح المجال أمام الأميين من مختلف الأعمارلتعلم القراءة وتعلم الكتابة. بالقراءة يزود القارئ نفسه بالمعلومة ويكتسب المعرفة ويتعرف على الرأي الأخر, أو يعرف إن هناك رأيا ً أخر, وبالكتابة يتمكن الكاتب من التعبيرعن كل ما يجول بخاطره أو يرغب في إيصال موضوعة الكتابة إلى من لا يتمكن من مقابلتهم والتحدث إليهم بشكواه أو شجونه أو هواه ,هذا على الصعيد الفردي – الشخصي.أما على الصعيد الفردي – العام تلعب الكتابة أهم دور في نقل العلوم وتوارثها,وفي تنقل الأفكاروانتشارها , وفي التعريف بالعقائد ومبادئها , وفي توصيف الفنون وأشكالها , وفي تعميم الأدب ومدارسه ,والفلسفة ومناهجها,وهي مصدراالخبرة المجربة والمنقولة عن الآخرين .
أخذ العلم مستويات تعلم متتالية , متوجة أكاديميا ًبشهادة الدكتوراة , وتراكمت المعرفة الإنسانية بكم هائل من مجالات العلوم ومساقاتها مما ألزم الأمانة العلمية ان لاتتجاوز حدود معرفتها اليقينية المتخصصة,وهذا ما تتعارف عليه الأدبيات بالمثل الأخلاقية العلمية التي تنطبق على المعرفة العلمية في كافة فروعها في كل المجالات.
يبدو إن التعلم هو تحفيز للعقل لاستدرار نعمة الذكاء الفطري الذي تأسس في العقل البشري وإعماله في التفكروالاتعاظ . فالحكمة والحنكة تستحضرا التجربة المقترنة بالملاحظة الذكية , والتعلم من المفروض أنْ يوفر لهما مادة موضوعية تستند إليها حكمة المتعلم وحنكته , لا أنْ يوقظ نوازع الاستعلاء والادعاء بالمعرفة والصواب في القول والحكمة في الرأي, لأن طاقة العلم ومجالاته أوسع بكثير من طاقة العقل وقدرته . والأصل في الذكاء ليس استخدام كم أكبر من المعرفة ,فهذه يمكن الرجوع إليها من مصادرها , وإنما الأصل في الذكاء أن نستخدم المعرفة لتحفيزتوليد مزيد من المعرفة المتخصصة ذات الصفة الاستنادية في تراكماتها العديدة ,أو على أقل تقدير على إبداء الرأي المعززبالمعرفة بمصداقية لا تدخل سوق البيع والشراء,كما يحدث في تحليل السياسة من جانب البعض من (المحللين !! والمفكرين !!) للأزمة السورية , ولموقف الاتحاد الروسي والصين والعراق وإيران منها وإزاء مواجهة القوى الغربية التي لم تستطع بعد من إدراك أن تاريخها الاستعماري يسبق كل كلمة , ويتصدر كل موقف من القوى القومية والوطنية, ذلك التحليل الذي يعرض آراء يستحي الجاهل فيها من جهله إنْ لم يقصد عن سابق إصرار على التضليل والتمويه ,ما جاء بها من معلومات.
ولعل أثمن قيمة للذكاء يمكن للفرد أن ينالها تقبع في الالتزام بما تعلم وتيقن من معارف هذا التعلم دون الوقوع في مأزق أنه عالم بأي موضوع , أو بعدة مواضيع.فالرأي ملازم للمعرفة اليقينية وليس للتوقع بالقياس بين مواضيع توسعت معارفها إلى حد كبير, أي المعرفة المقترنة بالخبرة المُعاشة والمجربة على الصعيد الشخصي , وهذا ما يحدو بنا إلى احترام آراء أميو القراءة والكتابة وأخذه على محمل الجد دون تردد أو استهانة بالمستوى العلمي لأصحابها , فهم على الغالب متجردون من المصالح الذاتية الآنية وغير الآنية , وهذا مما يعزز قيمة الرأي المجرب والمجرد من الغايات الشخصية وأحقادها وآثامها.