لا يضير تكرار التذكير بأن الحضارة العربية – الإسلامية عندما أتيحت لها الفرصة التاريخية لتتربع على قمة مسار الحضارات الإنسانية ( المسار التاريخي لصعود الحضارة وهبوطها ) أدت دورها المنسجم مع قيمها ومع إحدى وظائفها في إحكام أسس التواصل بين منجزات الحضارات قديمها وحديثها (المتزامن مع وجودها) والمستقبلي الذي يعود تاريخه إلى زمنه في تلك العصور,في المراحل المتتابعة من التاريخ البشري .
وقد أدت تلك الحضارة في مرحلتها وظيفة التواصل بين الحضارات بمهارة أشاد بها وبدورها محكمو تلك الحضارة ومؤرخوها وناقدوها من الغرب ومن الشرق, وثمنوا ما نقلته إليهم وما قدمته لهم المنجزات الفكرية والعلمية والأدبية التي أنجزتها حضارتنا ومكنتهم من استلهام خطاها في أخذ دورهم في الاستمرار في البناء الحضاري ذي الطبيعة التراكمية, ولم تنكرعلينا أفضال هذه المهمة المتجاوبة مع سيرورة الحضارات وصيرورة الشعوب والأمم التي تستجيب لمتطلبات التقدم والتحضر.
الصراع ,في نظر البعض,ضرورة من ضرورات الديمقراطية وضوابط التجدد والبحث المتواصل عن الأساليب الأكثرمنفعة والأعظم جدوى وفائدة , والصراع عندهم محفز للعقل على ديمومة إعمال الفكر وتوجيه الجهد نحو بذل المزيد من أجل تحقيق المنجزات النوعية التي تساهم في تسريع عجلة الترقي ودوام التأقلم البناء مع متطلبات العصر وأحداثه ومبتكراته ديمقراطيا ً.
وغالبا ًما تصف عبارة " صراع من أجل البقاء " تلك الحالة التي تسعى المخلوقات الحيوية ( الإنسان والحيوان والنبات) إلى التأقلم الذكي والتلقائي به مع محيطها من أجل تأمين احتياجاتها الأساسية لاستمرار وجودها والضرورية لنوعية هذا البقاء ومستواه , وأمنها وسلامة وجودها.
والصراع عند آخرين,جولات من الخلاف يبتدعون لها قدرا ًوافرا ًمن العداء , ويسخرون جهدهم في إذكاء هذا الخلاف وفي توسعته ليشمل الفكر والأسلوب وحتى المبادئ والأسس التي تشكل البنى الفكرية والنظرية للعقائد ,ويتمادى أكثر وأكثر في جهله لطبيعة الصراع من أجل التطور,إلى التهور في إضفاء طابع التصادم على مفهوم الصراع ليدخل في معترك التسفيه والتحقير للآخر, وتصل حالات منها إلى التجرؤ على الحقائق الانتمائية الراسخة للفرد في أصول الأقوام وجذورهم التي أتى الله على تكوينها المتعدد والمتنوع.
(أنظر كتابنا : التعددية والتنوع محركا التطور والتقدم,دار أزمنة للنشر-عمان) القومية في التفسيرالعام المبسط لمعناها هي أنتماء إلى جماعة (قوم) بحكم الولادة والتناسل وتماهي الجينات مع المورثات, وهي بذلك قدرلاخيارلمخلوق فيه, فمولود زوجين من العرق العربي ,عربي حكما ً, وهكذا الأمر بالنسبة لكافة الأمم وأقوامها وأعراقها. وهذا الانتماء لا يرتب لمنتميه خاصية تفضيلية على غيره من منتمي القوميات الأخرى , ولا يجعل منه مخلوقا ً بمواصفات خاصة يتفوق بها على غيره.
ولكن فيها دوافع الاعتزاز بهذا الانتماء بما يشكله من دور إنساني, ومن قيم تراثية تشارك بها قيم القوميات الأخرى , وتدخل في صراعات داخلية محملة برسائل من المبادئ الأخلاقية والعلمية والفلسفية تساهم في بنى سعادة البشرية ومدلولاتها الخيرّة .
وتميز في ميادين الصراع بين موجبات التعلم والاسترشاد وإعطاء المثل, وبين موجبات الصدام بما يحمله من مهالك وإضعاف لمقدرات القوم وامتهان لكرامة الإنسان فيه.
تاريخ العرب محمل بكم هائل من التراث , ومن الأحداث التي السلبية منها والإيجابية . وكان لتصادم الفكرالقومي مع فكر الإسلام السياسي وطروحاتهما أثر كبيرعلى طبيعة الصراع بين الفريقين مما أدى إلى قيام حالة عداء مستحكم بينهما على الرغم من إن القوميين مسلمون, والمسلمين العرب منهم يعون أختيارالإرادة الإلهية العرب كأمة لحمل الرسالة الإسلامية للعالم .وكان الخلاف يأخذ منحى الاتهامات المتبادلة بين الرجعية والتكفير.
ونستذكرهنا فكرالشيخ الجليل عبد الرحمن الكواكبي وآراءه وأطروحاته النهضوية النقية والمخلصة في ربط الدين بالقومية المنفتحة على الحضارة وعلى أسباب التحضرودواعيه. أدرك الطامعون بالثروات الطبيعية في الأرض العربية من القوى الامبريالية الذين تمكنوا من توحيد أهدافهم والالتقاء عند مصالحهم على الرغم من اختلافاتهم العرقية ومذاهبهم الدينية وانتماءاتهم القومية والإثنية ,فاستهدفوا من جملة ما استهدفوه لإضعاف مقومات الأمة العربية الفكرالقومي الذي يُعد من أهم العناصرالتعبوية في حركة التحررالعربية من أجل وحدة الموقف العربي إزاء سياسيات الطمع والجشع الأميركية – الغربية , ولمواجهة "اتفاقيات " تجزئة الجغرافيا العربية وإقامة الهياكل السياسية ووحداتها الحاكمة فيها بدعم مسوغات الخلاف , ومغريات السلطة والجاه لكل وحدة ودعم الحفاظ على سلطانها, على الرغم من تعذرتبريرهذا الوضع التقسيمي المفروض عليها بعقلانية أو موضوعية أوحد أدنى من المنطق الذي يلتقي مع تاريخ نشوء الأمم وتكونها.
كان وما زال العداء السافر والمستحكم في الخطط العدوانية الذي تبقيه القوى الاستعمارية وقواها وهواة التعامل مع أطرافها في السروفي العلن بحالة طوارئ دائمة وتحفزلمواجهة النظم التي تسعى لاستعادة صوابية وضع الكيان العربي الطبيعي السياسي والاجتماعي وأحقيته المتماهية مع تراث الأمة وتاريخها وتراثها, بتوحيد جهودها , وتضامن مواقفها إزاء السياسات العدوانية الطغيانية التي تمارسها اعتداءات الاحتلال الصهيوني, القاعدة المتقدمة لقوى الجشع والطمع, ومحاولات تفتيت الكيانات العربية , والدعوات التقسيمية المشبوهة الأهداف والمرامي والدوافع.
القومية انتماء لأمة وولاء لوطن وتمسك بالمبادئ الإنسانية , والوعي القومي بطبيعته معاد لقوى التآمرعلى الكيان القومي العربي, وشديد التمسك باستقلال الوطن وسيادة أبناءه على كامل ثرواته وامتداد حدوده. كما إن الدوافع القومية لأمة ذات تاريخ حضاري تشدها إلى الترقي وإلى تطوير إمكاناتها وتعظيم قدراتها,ولهذا كانت التيارات القومية هدفا ً ثابتا ً ودائما ً لأعداء الأمة وإخماد بدايات كل دعوة للنهوض والتحرر,والهدف واضح أبدا ً في التأكيد على إنهاك ثقافة الانتماء القومي, وإرباك فكرها بالدعوة إلى الإبقاء على التجزؤ,ورفع شعار" أولا ً "على كل جزئية جغرافية منه إمعانا ً في قهر الرؤية القومية لمصير الأمة ومستقبلها. الوطن العربي ثقافة ولغة ,هو وطن قوميات متعددة , متمسكة بثقافتها ومعتزة بانتمائها القومي .
فالعروبة سمة تتوافق مع اللغة السائدة والثقافة العامة وتراثها , وهي مرد التسمية ومرجعيتها .أما القومية العربية فهي كالقوميات الأخرى في الدول العربية لها أصولها ولها منتموها , وتتفق القوميات المتعددة من مواطني الأقطارالعربية على كرامة أبناءها وعزة وطنها.