لعل الخبرة العربية في العلاقات الدولية من أكثرخبرات الشعوب الساعية إلى برمجة تقدمها وتنمية مواردها ومعالجة قضاياها الوطنية في طبيعة علاقاتها مع الدول الغربية بشكل خاص , وفي علاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية وفي سياسات هذه الدول الموجهة إلى تسوية مصالحها على حساب مصالح العرب وأمانيهم.
فالعرب في التاريخ أمة حضارة,وفي الأخلاق والقيم الرفيعة حاملة رسالة سماوية ,والجغرافيا العربية مهد لاتصال السماء بالبشركافة , ومنطلق الرسالات السماوية ودعاتها وقديسيهاإلى أرجاء المعمورة,وهي بذلك أمة جديرة بالحفاظ على تراثها في التمسك بالاستقلال التام من التبعية بكافة أشكالها, ومقتدرة على التواصل مع قوى التطوروالتحديث والعصرنة بندية ومشاركة فعالة.
في الخبرة التاريخية ,فإن معاناة الشعوب من السياسات الاستعمارية ممارستها وبرامجها وتسويات مصالحها التي برع الغرب في ممارستها, تمس القيم الإنسانية في صميم مبادئها الأساسية , لإنها تأتي على أبسط حقوق الإنسانية التي صاغتها كل الدساتير الأممية وكل والمواثيق الدولية وكل البيانات الدبلوماسية وبروتوكولاتها,فليس أبشع من تحكم أجنبي بمقدرات بلد وطموحات أبناءه في تصميم البُنى التي تؤسس لصناعة مستقبله المنسجم مع سياقات التغير والتطور الذي تفرضه سنة الحياة البشرية منذ الأزل.
ظن مفلسفو الآليات الاستعمارية وسياساتها الاستغلالية ومنظروها,أن الذكاء في تغليف هذه السياسات بالعبارات المنمقة بالوعود بالمنافع والمكاسب ,ينطلي على أبناء الشعوب الأخرى بوهم أن الذكاء قصرا ًعلى طبقتهم وعلى أبناء جلدتهم , وأن مثل هذه السمة تُعوز أبناء تلك الشعوب!, إذ يتساءلون : وإلا كيف سمحوا لغيرهم التحكم بمصائرهم الوطنية والاقتصادية والثقافية ؟؟ في حين يمارسون الديمقراطية والتنمية الجسورة والقيم الإنسانية في بلادهم متغافلين,في تساؤلهم الماكرهذا عن دورالقوة العسكرية وسلطانها الجشع التي يستخدموها في تحييد كل قيم الإنسان وفضائله وهذه القوة تشكل بحد ذاتها منظومة المرجعية الاستعمارية وآلياتها وقيمها الثقافية الفعلية .
اليوم هو حاضرالتاريخ , وأمس هو ماضيه القريب , والعرب من الشعوب التي اتصفت بالذكاء الفطري ,أي الذكاء الذي وإن لم تنم القراءة والكتابة مستوياته الإدراكية والعلمية والإبداعية , فإنه في حدوده الدنيا قادرعلى استقراء النوايا وما ترمي إليه من إدراكه الفطري لطبيعة أصحاب هذه النوايا ومعرفته ببعض التاريخ السماعي عنهم بالقصص والروايات المحكية.أما اليوم وبعد أن فاقت معدلات نمو قدرة الذكاء عند العرب وغيرهم على تشخيص النوايا وتحليل مراميها بدقة مستندة إلى تراث ضخم من التجربة ومن كفاءة العقل على المقارنة والتمييز, وعلى قراءة ما خلف السطور قراءة نقدية بمهنية متفوقة على مهنية دوافع التضليل التي تقبع النوايا خلفها ,نجد أنفسنا إزاء حاجة ماسة من ناحية , وضرورية من ناحية أخرى إلى إدراك دوره ( أي الذكاء) في تقييم مآرب هذه النوايا الاستغلالية ومراميها الخبيثة.
حاجة ماسة لأن موقف الإنسان العربي (وهذا ينطبق,دون شك على الإنسان في العالم كله ) لم يعد ضحية مواقف نظامه الحاكم السياسية وغير السياسية ,ولم تسكن نفسه إلى الاطمئنان على مستقبله بتركه هكذا بأيدي الحكام ورهن أمزجتهم .
وهي ضرورية لأن المواطن العربي لم يعد كالورقة البيضاء بين أيد تخط بأقلام باهتة أفكارا ًتجاوزت تاريخ أمس القريب وقفزت عليه وتغاضت عن أحداثه وما ألحقه من مآس وما تسبب فيه من نكسات لأمانيه وقواه ومكاسبه التنموية والعلمية. الشخصية العربية الحديثة تبلورت بجهد ذاتي في الحرص على تعلم القراءة والكتابة و تنمية العقل بالمعرفة ومدلولاتها وبذل الجهد الحثيث في التواصل مع عوالم الحداثة وأعلامها ومتطلبات المعاصرة ومقتضيات توطينها,وترافق ذلك مع النهل من منابع العلوم بكافة ميادينها والثقافة بتنوع أنماطها والآداب من مختلف مصادرها.
على إن ذلك لم يمنع ( وهوليس بالأمر المستغرب)أنْ يقع البعض من الكتاب وغيرهم من أصحاب الرأي والمشورة, في فخ شارك ناصبيه وضعهم له بإغراءات شتى دون أن يتعظ من تاريخ الأمس القريب حيث قرار مجلس الأمن الذي خطته قوى الامبريالية العريقة في مرواغتها من ادعاء حماية الشعب الليبي , ومن هذه القوى ما زالت مآسينا التي تسببوا لنا بها كعرب شاخصة أمامنا متجذرة في بعض أرضنا مهشمة لبعض من كرامتنا الوطنية في غيها وفي انتهاكها لحرمات أوطاننا واستخفافها بالرأي العربي ومواقفه التي جُرت حكوماته إلى الاستكانة لإرادة الأجنبي حماية لمصالح تراتبية توارث السلطة والتمسك بها .
حماية الشعب الليبي,في التفسيرالغربي – الأميركي, تجلت في المحافظة على حقول النفط وعلى تأمين انسيابه إلى دول أوروبا,وتوثقت هذه الحماية بتدمير البنى والهياكل البنوية في مختلف أرجاء ليبيا,وفي تدميرمصادرها الإنتاجية والسكانية عدا عن عشرات الآلاف من القتلى من المواطنين الليبيين دون تمييز بين طفل وامرأة وشيخ ومحارب" وثائر!!".وإلى وضع يحتاج إلى كلفة باهظة أخرى للعودة إلى الاستقرار, فقتل الطاغية كان هدفا ًغيرمعلن مغلف بحماية الشعب وحريته!! وما عداه أوقعه الناتو في خانة أمور أخرى!لم تلبث أن تكشفت على حقيقتها المعروفة مسبقا ً.
والدعوة إلى الممرات الإنسانية ( نحملق بدهشة على مفردة الإنسانية ) التي تتولى الدعوة لها فرنسا ( ونتذكر جرائمها البشعة في الجزائر وفي دول أفريقيا) في سوريا بعد أن عجزت القوى الغربية والأميركية عن التجرؤ على تكرارالتجربة الليبية , ومهملة دعوات ""الثوار!!!" للتدخل العسكري في سوريا , معترفة بأن وضع سوريا أمر مختلف,ولا تقوى على تحمل تبعاته ,هذا من جهة , ووقفة كل من إيران وروسيا الاتحادية إضافة للصين المعارضَة لمثل هذا التدخل والرافضة له والمستعدة لمواجهته من جهة مقابلة, وترى في إنسانية هذه الممرات طرقا ً آمنة لتهريب السلاح وتأمين طرق المسلحين ذهابا ً للخراب وإيابا ً للتهريب,مستعيدة علاقتها التاريخية مع عناصر القاعدة .
أدخلت هذه المواقف الأنظمة العربية في متاهة الانقسام ليس فقط سياسيا ًكما العهد على مر الزمن بها بل على أرضية العلانية المستغربة في المطالبة العلنية بالتدخل العسكري الأممي ( المقصود طبعا ً الأوروبي- الأميركي فقط ) لإسقاط النظام السوري, وهذه المتاهة التي لم يسجل تاريخ الأنظمة العربية المعلن أعقد منها ولا أكثرمنها الإضرار بالسمعة العربية لدى مواطني الدول الأخرى ومثقفيها وعلى رأسهم الأفارقة الذين ما زالوا غاضبين من تجاوز منظمتهم في العدوان العسكري على ليبيا,وهم يرون تهافت أمين عام الجامعة العربية بادعاءات عن الوضع في سوريا يكذبها تقريرالمراقبين الذين أرسلتهم الجامعة نفسها لبيان حقيقته على الأرض.
وأدخلت هذه الأحداث بمجرياتها الأليمة والمحزنة بعض الرأي العربي وطارحيه وكاتبيه ومستكتبيهم ومروجيه في مدخل الاعتراف الكامل بحق القوى الامبريالية في التصرف في الشأن العربي كما لو كان شأن الأشقياء من مواطنيها المدمنين على تعاطي الكحول والمخدرات , في الوقت الذي مثلت فيه مواقف الاتحاد الروسي والصين الشعبية فرصة ثمينة لكل القوى الوطنية ,والقوى التي تضع كرامة إنسانها في مقدمة أهدافها , لاستثمارها في تعزيزعودة حميدة لقوى جديدة تواجه صفاقة قوى الغرب في الاستهتار بالشعوب والتعدي على مصالحها وتحد من غلواء الوقاحة السياسية الأميركية في التدخل السافر في الشأن العربي وفي قضاياه الداخلية لمزيد من التفتيت والتقسيم الذي لن نجد لهم بعد مرحلة من الزمن ما يمكن لهم قسمته !!(واللبيب من الإشارة يفهم ).
تمثل عودة الروح للقدرة الروسية وقواها العسكرية وثقلها السياسي في العالم , ونمو الصين وتصاعد اقتدارها العسكري والاقتصادي وتحالف مجموعة البركس المبشرة بنشؤ قوى قادرة على رد التحدي وردع حماقاته ومواجهته,وعلى دعم الحراك التاريخي في التخلص من الهيمنة الغربية – الأميركية على تحديد مسار أحداث هذا العالم وتوجهاته,إلى مواجهة "وضع القوة المتفردة في العالم" التي تجهد القوى الغربية - الأميركية على تعزيزه والحفاظ على الهيمنة الأميركية كقوة متفردة وتدافع عنها .
فكلما تحجمت قوى الاستعمار والاستكبار, كلما قويت عزيمة الأمم على مجابهة طغيان القوة وسياسات الهيمنة والإكراه, هذه البدهية تلقى,عادة نصيبها من النجاح ضد قوى الطمع والجشع . وتتجلى مصداقية خطاب الحرية عندما يصدح الأحرارالمستقلون بها .