الكورة .. حمل لواء الانتماء، وراية الوفاء، وكوفية الولاء منذ أن غُرست أشجار جنان برقش، وانسابت المياه العذبة من عيونه وأوديته. منذ أن عانق المنجل سنابل سهله، وتنقّل النظر هنا وهناك على أزاهير ربواته.
ومنذ أن نبت الدحنون على جدران بيوته الطّينية، وجاور الزيتونُ في (حوش) البيوت التينَ والليمون... منذاك وأبناء هذا اللواء مدرسة في الوطنية والإخلاص، وأكاديمية شرف وعزّ متوارث، وبيت شعر خالد في حب الوطن؛ صدره في سموع وعجُزُه في جديتا، وقصيدة فخر تنتشر معانيها من أبو القين إلى الناحة، ومن سهول كفر أبيل إلى هامة تبنة. هذا اللواء؛ إنْ عُدَّتِ الأنفس والنفوس فستجده يتجاوز المئة ألف نسمة بعشر أو بأكثر.
هذا العدد الغفير لا يتابع بعض الأخبار حصرا وتحديدا. ومن هذه الأخبار التي لا يتابعها ولا تعنيه أخبار التعيين لمجموعة من الوظائف الحكومية العليا؛ وخذ بعض الأمثلة على ذلك: وزير، أمين عام وزارة، محافظ، متصرف.
زد على ذلك منصب سفير أو قنصل أو ملحق ثقافي أو مستشار عسكري. فسبحان الله العلي القدير! وكأن هذه المناصب وأشباهها كبيرة على مقاس أبناء هذا اللواء، أو أنّ حجومنا في الكورة لا تتناسب مع حجوم هذه الوظائف واشتراطاتها.
ولو تحرّيت وتقصّيت في وزارتي الداخلية والخارجية، فلن تعثر على موظف مهما كانت مرتبته في هاتين الوزارتين- طبعا إذا استثنينا بعض أبناء هذا اللواء من عشيرة أو اثنتين نحترمهما ونجلهما كغيرهما من العشائر الكيراوية.
على الرغم من أن التعامل بمصطلح العشائر والأسر يتنافى تماما مع العدالة والإنصاف؛ فالكفاءات والشهادات العلمية والأكاديمية التي يحملها أبناؤنا تعزى إلى الفردية والشخصية وليست العشائرية. ولكن ما يجبرنا على استخدام لفظ العشائرية هو ما رأيناه ونراه من الحكومات المتعاقبة التي تصرّ على هذه المرجعية في التعيين لهذه المناصب حتى بات معروفا مثلا أنّ منصب المحافظ قد اقتصر على عشيرة بعينها أو من قاربها أو ناسبها أو جاورها.
إضافة إلى أبعاد أخرى تؤخذ بالحسبان عند تلك الحكومات كالنفوذ المتوارث مثلا، أو الصلات الوثيقة بين صاحب القرار في الحكومة مع مَن سيتبوأ هذه المناصب السّنيّة.
وقد ثبت أن مثل هذه القرارات غير المسؤولة تثير في نفوس الأكفياء من أبناء هذا الوطن الاحتقان والإحباط والتّذمّر الذي رأينا بعض إفرازاته الآن في الشارع والمجالس وكافة المواقع؛ فهذا وجه كريه قبيح من الفساد الذي مورس على أبناء الوطن كافة وليس في لواء الكورة فقط. وقد آن الأوان أن تُطرحَ هذه الوجوه في مستودع نُفايات منسيّ كشاهد على سوء الإتمان وظلم ذوي القرار، وبعدهم الشاسع عن تحقيق العدالة ولو كانت نسبية على أقل تقدير؛ على الرغم أن الصّحيح لا يُجزّأ، ولا مجال للأخذ بالانتقائية في العدل والعدالة. أبناء هذا اللواء كغيرهم من أبناء الألوية الأخرى من أشراف هذا الوطن؛ فإن اشتكى لواء من عارض ما، فسيتألم باقي أبناء الألوية الأخرى من ألم العارض نفسه.
وإن حلّ بالوطن ما لا يحمد عقباه- لا قدّر الله تعالى- فسيكون هؤلاء الدرع الواقي بصدورهم ونحورهم، في حين يتراكض الجبناء بأموالهم وذراريهم وما ملكت أياديهم نحو المطارات والمخارج الحدودية، وستجدهم أول من يسحبون أرصدتهم لتحويلها إلى بنوك الغرب والشرق.
أمّا الخُلَّص من أشراف هذا الوطن، فإن أرصدتهم لا تصلح للسحب أو الجرّ؛ فرصيدهم كرامة وعزّ وفخار، ورصيدهم زيتونة مباركة جذورها ضاربة في ترب الوطن لا يقوى فاسد على اقتلاعها.
أهرامات الفساد بنيت بأياد شيطانية، أياد أنشبت أظفارها وأنيابها في جسد هذا البلد ومواطنيه، أياد أخطبوطية تطاولت على كلّ شيء، وعلى كلّ مكان في البلد، فأوصلونا في مراكبهم إلى شواطئ ينعق على جنباتها البوم والغربان، وتهبّ عليها ريح السّموم ممطورة بمطر السّوء والشقاء. أهرامات ارتفعت طوبة طوبة وما بين الطوبة والأخرى يتربع شبح فاسد أو قطيع من هؤلاء الذين خانوا الأمانة التي حُمِّلوها من أبناء هذا البلد الطيب وعلى رأسهم الهاشميون بسماحتهم وطول أناتهم وجود أخلاقهم وسجاياهم. لذا، نأمل أن تتغيّر العقليات النتنة القديمة، بأن يعامل المواطنون كمواطنين من الدرجة نفسها؛ فمنصب الوزير مثلا كما هو حقّ لك فهو حقّ لي كذلك. أم أنّ الجينات الوراثية لأبناء هذا اللواء لا تنسجم ولا تتناغم مع المناصب الرفيعة؟ اتقوا الله في وطنكم- إذا حسبتموه ذلك- فما هي إلا صيحة واحدة تنتقلون بعدها من عذاب الضمير إلى عذاب القادر القدير.