تصادف في هذه الأيام الذكرى السنوية الثالثة والثمانين للمؤتمر الوطني الشعبي الأول الذي عقد في 25 تموز 1928 بمقهى حمدان في عمان بحضور ما يقارب 150 مندوب من شيوخ وزعماء ومفكري البلاد، هذا المؤتمر فيه الكثير من الدروس والعبر التي يمكن الاستفادة منها في هذه الأيام الأمر الذي يستلزم التوقف عنده.
في سياق التطور السياسي والتاريخي للمسيرة الديمقراطية في الأردن، فإن هناك محطات عديدة بعضها يعود إلى زمن الحكم العثماني، وبعضها منذ نشوء الدولة عام 1921 ومستمرة حتى الوقت الحاضر، هذه المحطات ذات أبعاد ودلالات هامة في ظل الظروف المحلية والإقليمية، وهي بالمحصلة أحداثاً بارزة لم تكن نتاج الصدفة، وإنما نتاج مجموعة من العوامل الداخلية بالدرجة الأولى وترتبط ارتباط وثيق الصلة بالشخصية العربية عموماً والشخصية الوطنية الأردنية على وجه الخصوص، والمؤتمر الوطني الأردني الأول هو إحدى هذه المحطات التي ستتوقف عنها في هذه المقالة، ولكن قبل الدخول في مقدمات ووقائع وقرارات المؤتمر لا بد من تناول بعض المحطات الهامة في تاريخ الأردن الحديث والتي تشكل مدخلاً للحديث عن المؤتمر.
الخير دائماً يأتي من الجنوب!
في عام 1832 هرب قاسم الأحمد الجماعيني أحد زعماء نابلس إلى الكرك بعد أن أحل العثمانيين دمه نتيجة وقوفه مع أهالي نابلس ضد التعسف والاستبداد العثماني فلجأ إلى الكرك حيث استقبله وأجاره شيخ الكرك وحاكمها حين ذاك الشيخ إبراهيم الضمور.
وتشير المصادر التاريخية إلى أن العثمانيين أسروا أبناء الشيخ ابراهيم الضمور علي وسيد وفاوضوا الشيخ الضمور على تسليم دخيله أو حرق أبنائه، إلا أن رجولة وشهامة وكبرياء الشيخ إبراهيم الضمور دفعته إلى التضحية بأبنائه على أن يساوم على أخلاق وقيم العروبة في إكرام الضيف وإجارة الدخيل وغيرها من عادات وتقاليد العرب.
وعلى مدى العقود والسنوات التالية واصل أبناء الجنوب الأحرار تمردهم على الاستبداد التركي، فكانت ثورة الشوبك عام 1905 وهبة الكرك عام 1910 وهي ثورات تحررية بالمعنى الحديث، فالمظالم التي كان يوقعها الأتراك لسكان البلاد كانت تدفعهم إلى شق عصا الطاعة ورفع راية التمرد والعصيان.
ومع إعلان الثورة العربية الكبرى عام 1916 على الظلم التركي، كان أبناء الجنوب من أوائل من أيّدوا الثورة التي كانت تعبر عما يختلج في قلوبهم من مشاعر قومية، ورغبات استقلالية وتطلعات بالحرية والكرامة، فكان الشيخ عودة أبو تايه شيخ قبيلة الحويطات وأشهر فرسان العرب في العصر الحديث أول من لبّى نداء الثورة ولحقه الكثير من أبناء البلاد.
وعند مجيء الأمير عبد الله بن الحسين إلى شرق الأردن في أوائل القرن الماضي كان عودة أبو تايه وحمد بن جازي وغالب الشعلان ومثقال الفايز وقدري المجالي وغيرهم من زعماء البلاد في استقباله، وهكذا نجد أن الجنوب كان دوماً معقلاً للثوار الأحرار، وبعد قيام الدولة واستقلالها وحتى الوقت الحاضر كان الجنوب وما يزال مركز الثقل السياسي في البلاد يتقاسم أهله مفاتيح السلطة والمعارضة فمن الجنوب جاء هزاع المجالي وحابس المجالي ويعقوب زيادين وسالم النحاس وليث الشبيلات وعبد الله العكايله وغيرهم. وفي العصر الحاضر فإنه منذ هبة نيسان عام 1989 حتى الوقت الحاضر لا زال أبناء الجنوب هم قادة الحراك السياسي والاجتماعي في البلاد فحراك المعلمين والمتقاعدين والحراك الذي نشهده هذه الأيام انطلق من معان والكرك والطفيلة وذيبان، وهذا موضوع يستحق الدراسة والبحث نأمل أن نعود إليه مرة أخرى، ونعود الآن إلى مقدمات المؤتمر الوطني الأردني الأول.
تهميش أبناء البلاد والاعتداء على الاستقلال
كانت شكوى أبناء البلاد منذ قيام الدولة عام 1921 وما تزال مستمرة حتى اليوم هو توسيد مناصب الدولة إلى أشخاص من خارج البلاد، غرباء أو وافدين لا يترددوا في تنفيذ أوامر المستعمر البريطاني من اجل تحقيق مصالحهم، فالأردن بالنسبة لهم بقرة حلوب.
في ظل هذه الظروف عقدت المعاهدة الأردنية البريطانية عام 1928 والتي جعلت مقدرات البلاد بأيدي سلطة الانتداب البريطاني وفرضت على الأردن فرضاً، ثم قامت حكومة الانتداب بنشر القانون الأساسي "الدستور" لشرق الأردن وكان مستمد من المعاهدة ولم يكن لأهل البلاد أيضاً أي رأي فيه، وفي سبيل التصديق على المعاهدة كان لا بد من إجراء الانتخابات من أجل قيام مجلس تشريعي يصادق على المعاهدة المشؤومة.
يعد أن يأس الأردنيين من سلطات الانتداب في الاستجابة لمطالبهم المشروعة في المشاركة في إدارة البلاد وإنشاء حكم نيابي دستوري، تنادوا إلى عقد مؤتمر وطني يمثل البلاد كلها وينطق باسمها، وفي المؤتمر استذكروا ما وقع من اعتداء على الاستقلال ووضعوا الميثاق الوطني ودعوا أهل البلاد إلى التمسك به وتنفيذه، ولعل أبرز الدروس والعبر التي يمكن أن نستخلصها من هذا المؤتمر ما يلي:
1- الشعور بالاقتدار السياسي لدى أبناء البلاد، أي شعورهم بالقدرة على التأثير في مجريات الحياة السياسية من خلال اجتماعهم واتخاذهم لقرارات المؤتمر، هذا الشعور لا نلمسه هذه الأيام لدى الحركة السياسية في الأردن حيث تطغى مشاعر الإحباط والاغتراب لدى الكثير من المشتغلين بالهم العام.
2- توفر روح المبادرة لدى زعماء البلاد، حيث جاء قرار عقد المؤتمر بمبادرة شعبية من أبناء البلاد بعد أن استنفذوا الوسائل الأخرى في مخاطبة سلطات الانتداب البريطاني أو حتى عصبة الأمم حين ذلك.
3- الاستعداد التام للمشاركة السياسية وتحمل المسؤولية والاستعداد للتضحية ودفع الثمن بمقارعة سلطة الانتداب البريطاني والتي كانت إمبراطورية عظمى في ذلك الزمان.
4- غياب الفردية والشخصانية والعمل بروح الفريق والإيمان بالعمل المؤسسي وهو أمر تفتقر إليه هذه الأيام الكثير من الأحزاب والحركات السياسية.
5- الثقة السياسية المتبادلة بين المواطنين المشتغلين بالسياسة والنظام السياسي، فقد كان الأمير متعاطفاً ومتفهماً لمطالب الحركة الوطنية، ولكنه كان يرى أن التعامل مع بريطانيا شر لا بد منه.
واليوم وبعد مرور ما يزيد عن 80 عاماً على عقد ذلك المؤتمر نجد أن ما اجتهد فيه البناة الأوائل يصلح لأن يكون بمثابة دستور أو ميثاق للحركة الوطنية الأردنية إذ أن قرارات المؤتمر يمكن إعادة صياغتها اليوم بلغة عصرية تواكب التطورات التي شهدتها البلاد وذلك على النحو التالي:
نحو قراءة جديدة لمقررات المؤتمر الوطني الأردني الأول
1- المملكة الأردنية الهاشمية دولة عربية حرة مستقلة بحدودها من الكرامة شرقاً إلى نهر الأردن غرباً، ومن نهر اليرموك شمالاً إلى العقبة جنوباً.
2- نظام الحكم في البلاد نيابي ملكي وراثي في آل هاشم، وهذا يعني برلمان منتخب بحرية تامة يمارس دوره الحقيقي في الرقابة والمسائلة والتشريع.
3- الحكومة مسؤولة أمام البرلمان وهي صاحبة الولاية في إدارة شؤون البلاد الداخلية والخارجية.
4- يرفض الأردن الصهيونية وكيانها القائم ويرفض كل مشاريع التسوية والتصفية فالتوطين والتجنيس والتطبيع والكونفدرالية والوطن البديل والخيار الأردني وغيرها من تشاريع تصفوية مرفوضة بشكل مطلق لدى المجتمع الأردني.
5- موارد الدولة الأردنية هي حق على الشيوع لأبناء الأردن ولا يجوز التصرف بها خارج الهيئات الدستورية.
6- رفض كل مشاريع الخصخصة وتهميش دور الدولة في المجال الاقتصادي فالأردن هو دولة القطاع العام.
7- لا يجوز التصرف بأراضي الدولة والممتلكات العامة إلا وفق أحكام القانون.
8- لا يجوز فرض قوانين استثنائية (مؤقتة) خارج حالات الطوارئ المحددة دستورياً.
9- توزيع مكتسبات التنمية بعدالة وفرض نظام ضريبي تصاعدي.
10- الجيش مؤسسة وطنية أردنية تدافع عن أمن وسيادة البلاد والعباد.
وختاماً نقول أن الأمم الحية والشعوب المتحضرة هي التي تحيي مناسباتها الوطنية وتخلد ذكرى رجالاتها الذين وقفوا مع الوطن ومن أجله مواقف المروءة والرجولة وقول الحق، واليوم نجد أن الظروف التي عقد فيها المؤتمر الوطني الأردني الأول مشابهة أو واحدة وكأن التاريخ يعيد نفسه، ومن هنا فإن الدعوات إلى إحياء مقررات المؤتمر دعوات مبررة وهذا يستلزم عقد المؤتمر الوطني الأردني السادس الذي طال انتظاره حيث أن آخر مؤتمر وطني أردني عقد كان المؤتمر الوطني الخامس عام 1933، فهل جاء الوقت وهل سيحضر الرجال ويعقد هذا المؤتمر؟ هذا ما نأمله وسنسعى إليه، والله الموفق.