أنابوليس: الحدث والحدوس والمتغيرات الاستراتيجية

mainThumb

27-11-2007 12:00 AM

ينشغل العرب في المشرق هذه الأيام بما سيحدث بعد مؤتمر أنابوليس، بعد أن انشغلوا أسابيع إن لم يكن شهوراً بترجيح عدم حدوثه. بيد أن الذين كانوا ي?Zر?Zون?Z أو يرجون عدم حدوثه يختلفون من قبل والآن عن القلة التي كانت تُرحب به في تبيان أو تعداد أسباب فشله بالنسبة الى العرب والفلسطينيين على الخصوص. فحتى الآن ليس واضحاً ما إذا كان المتفاوضون الفلسطينيون والإسرائيليون (والوسيط الأميركي) قد اتفقوا على الوثيقة التي سيُوقّع عليها في المؤتمر، ما هي مرجعياتها، وما هي بنودها، وما هي آليات تنفيذها؟ الفلسطينيون (والعرب) يتحدثون عن قرارات الأمم المتحدة، والمبادرة العربية للسلام، وأضافوا الى ذلك أخيراً خريطة الطريق. والبند الرئيس أو البندان هما إقامة الدولة الفلسطينية، وفي حدود العام 1967. أما النقاط التفصيلية فتتناول موضوعات ما يُعرف منذ أوسلو (1993) بمشكلات أو موضوعات الحل النهائي والتي يعتمد عليها قيام الدولة الفلسطينية أو عدم قيامها وهي: القدس والمستوطنات والحدود واللاجئون. والمعارضون لأنابوليس نوعان: الذين يقولون بالكفاح المسلح سبيلاً أوحد لتحرير كامل الأرض الفلسطينية والعربية، وهؤلاء يعارضون العملية السلمية أساساً ومن الطبيعي ألا يكونوا مع أنابوليس أو أي صيغة تفاوضية أخرى تفترض بقاء دولة الكيان الصهيوني. وهؤلاء (الذين يملكون اليوم تنظيمات مسلحة، وأرضاً للانطلاق، ودعماً قوياً في الشارع العربي وما وراءه لأسباب قومية وإسلامية) ليس هنا موضع نقاش وجهة نظرهم، على رغم أنه لا يمكن نسيانهم أو إهمالهم وفي أنابوليس بالذات لأنهم سيكونون بارزي الحضور بعدها كما هم قبلها. أما النوع الثاني من المعارضين للمؤتمر الدولي في أنابوليس فهم أولئك الذين يقولون بالتسوية وإمكانها في المبدأ، لكنهم لا يرون أن الظروف ملائمة لذلك الآن: بسبب الضعف العربي العام، وبسبب التجربة التاريخية مع إسرائيل، وأخيراً بسبب انحياز القوة الأعظم التي تستضيف على أرضها المؤتمر، الى الكيان الصهيوني. وفي التفصيل، فإن هناك تصورات إسرائيلية وأميركية محددة في موضوعات الحل النهائي الأربعة لا تتلاءم مع القرارات الدولية ومع المبادرة العربية وحتى مع خريطة الطريق. حسب هذه التصورات يريدون أن تبقى القدس موحدة وعاصمة للكيان الصهيوني. وأقصى ما يقولون في إمكان التنازل في شأنه يُشبه ما عرضه باراك (1998 – 2000) ورفضه الرئيس عرفات. وهذا مع أن ما يصرّحون به اليوم لا يمضي حتى الى الأفق الذي مضى إليه باراك يومئذ. أما المستوطنات فهم يريدون وبإصرار الحفاظ على الكتل الكبرى منها وعلى السور الواقي من حولها، والمعتدلون جداً من بينهم (وهم ليسوا كثيرين الآن) يقبلون بتعويض الفلسطينيين عن المأخوذ والمُستولى عليه بأراضٍ في صحراء النقب. ويشتد الجدال في ما بينهم هم على الحدود، وهل يُسمح للكيان الفلسطيني المرتقب أن تكون له حدود مع مصر والأردن أم لا. أما قضية اللاجئين فهي عقدة العقد، لأن الصهاينة لا يقبلون حتى الآن البحث فيها، ولا الاحتكام الى القرار الدولي الرقم 194 للعام 1948 في شأنها: العودة أو التعويض لمن يقبل بذلك. فالعودة لا بحث فيها، والتعويض شأن العرب والمجتمع الدولي! فهم يريدون من العرب أن يؤوا أشقاءهم في ديارهم الواسعة، والتكلفة المادية يدفعها العرب الأغنياء ومن يريد من دول العالم الثرية أيضاً. أما الوطن والوطنية، وهما الممارستان اللتان قادتا اليهود الصهاينة وغيرهم الى الأرض الموعودة بعد ألفي عام، فليس للفلسطينيين نصيب منهما في نظرهم ونظر مؤيديهم في العالم! ويضيف المعارضون لأنابوليس أن هذا المؤتمر يشكل ممارسة أخرى من ممارسات «الصلح المنفرد» أو المجزّأ، والذي ترك المنطقة في اضطراب منذ اتفاق كامب ديفيد (1977 - 1979) مع مصر. لكن حتى الصلح المنفرد أو الحل المنفرد والذي ولّد سلاماً بارداً مع مصر والأردن لن يكون متاحاً الآن بسبب الضعف العربي العام، الذي لا يدفع الحكم الإسرائيلي والراعي الأميركي الى الحرص على التنفيذ!


وإضافة الى الأسباب التي ذكرناها من جانب المعارضين العرب لمؤتمر أنابوليس، هناك الأسباب الأخرى التي يذكرها الإسرائيليون أنفسهم باعتبارها شروطاً قبل الدخول في مسائل التنفيذ: قلة الثقة بالشريك الفلسطيني (وهو هنا سلطة الرئيس محمود عباس ومنظمة التحرير)، وبقدراته على التنفيذ إن جرى الاتفاق معه على أمر بسبب الانقسام الحاصل على الأرض بين «فتح» و «حماس» والمتجلي في كيانين منفصلين في غزة والضفة، والأمر الآخر: العجز عن ضمان «أمن» إسرائيل وسط وجود واستمرار ما يُسميه الفلسطينيون كفاحاً مسلحاً، وما يسميه الأميركيون والأوروبيون إرهاباً!

ومرة أخرى وليست أخيرة، يضيف الخبراء والمراقبون وبينهم صهاينة معتدلون (!) من مثل هنري كيسنجر ومارتن أنديك ودنيس روس أسباباً سياسية إسرائيلية داخلية لعدم إمكان الحسم في أنابوليس أو في أي اجتماع مُشابه. فإذا كانت السلطة الفلسطينية بالغة الضعف، فإن الحكومة الإسرائيلية الحالية ضعيفة أيضاً، وهي لا تستطيع التوصل الى أي التزامات فضلاً عن القدرة على المضي باتجاه التنفيذ مهما كان ذلك في مصلحة دولة إسرائيل. إيهود أولمرت لن يتمكن من الاستمرار في رئاسة الحكومة لأسباب عدة بينها المرض، وحليفه الرئيس في الحكومة باراك يُهدد في كل لحظة بترك الحكومة والدعوة الى انتخابات مبكرة. وهو فضلاً عن ذلك (أي باراك) لا يرى في المؤتمر الدولي الحالي وأُطروحاته مصلحة لإسرائيل، ويريد قبل ذلك شن حرب وكسب انتصار على إيران أو «حزب الله» أو حتى «حماس»! ولا تزال مناوراته على الحدود مع سورية ولبنان، وغارته على سورية بالطائرات، حية في الذاكرة القريبة القريبة.

لماذا يُصرُّ الرئيس بوش ووزيرة خارجيته إذاً على المؤتمر الدولي في هذه الظروف؟ الولايات المتحدة قوة عظمى منذ الحرب العالمية الثانية. وهي القوة الأعظم بعد الحرب الباردة. وتعتمد سطوتها على أربعة عوامل: نجاح النظام الأميركي وصيرورته نموذجاً عالمياً، والقوة الاقتصادية، والقوة العسكرية، والهيبة الناجمة عن العوامل الثلاثة السالفة الذكر، والتي صارت الى حد ما مستقلة عنها. وقد جرّبت الولايات المتحدة المصالحات والتسويات في حالين: حال الانتصار شبه الكامل، وحال الانكسار الجزئي. ما استطاع طرف حتى اليوم أن يهزمها هزيمة كبيرة، وما استطاعت هي أن تنتصر يوماً انتصاراً عسكرياً أو استراتيجياً كاملاً. انكسرت في فيتنام، لكنها سرعان ما لملمت خسائرها بالتفرقة التي استطاعت ذرّها بين الصين والاتحاد السوفياتي. بيد أن الذي تأثر أكثر من الجيوش يومها هو تلك الهيبة بالذات. وقد بدا ذلك التأثر في الاتفاقية التي عقدتها مع الفيتناميين، وقبل ذلك في الانقسام الذي حدث داخل المجتمع الأميركي. وانتصرت انتصاراً شبه كامل في حرب تحرير الكويت، فأقبلت بمقتضى السطوة والهيبة على صنع مؤتمر مدريد، والذي حقق أغراضه بالنسبة إليها ما بين العامين 1991 و1995 فاكتفت بأوسلو، وانصرفت الى مشاغل أخرى مستجدة. فقد اقترن مؤتمر مدريد، واقترنت الحرب على العراق يومها بما اعتقدته الولايات المتحدة انتصاراً استراتيجياً كاملاً تمثّل في سقوط الاتحاد السوفياتي! لذا فقد عملت على الهيمنة الكاملة حتى من دون جيوش اعتماداً على الهيبة التي لا تتزعزع. وما كان ذلك صحيحاً ولا حكيماً، بدليل أنها اضطرت الى استخدام عسكرها خلال فترتي كلينتون ثلاثة أضعاف المرات التي استخدمته فيها في حقبة ما بعد فيتنام! ومع ذلك، ومضياً مع هذا الاعتقاد تضاءلت السياسة والديبلوماسية الى أقصى الحدود في الفترة الأولى من رئاسة جورج بوش الابن، وصار استعمال العسكر هو القاعدة وليس الاستثناء! وما استنتجت النتائج الصحيحة من ظاهرة أسامة بن لادن وهجومه الصاعق على كبرى مدنها ووزارة حربها عام 2001، فمضت الى غزو العراق، وسط دخان كثيف عنوانه «الحرب على الإرهاب»! وفي العام 2005 تلفتت الدولة الأميركية من حولها، فإذا هي قد فقدت من السطوة والهيبة ما لم تفقده في أية مُنازلة عسكرية أو سياسية من قبل حتى مع القوة العظمى الأخرى زمن الحرب الباردة!

إن هذا الاستطراد الطويل جوهري لمعرفة علّة إصرار الإدارة الأميركية في عهد بوش الثاني على عقد مؤتمر دولي لمعالجة مشكلة كبيرة في منطقة الشرق الأوسط بالذات. فهو مؤتمر «استعادة الهيبة» أو محاولة ذلك وليس بالجيوش (التي لم تنجح حتى الآن في السيطرة على بلد ممزق كالعراق) بل بالسياسة وبالديبلوماسية. ومؤتمر «استعادة الهيبة» هذا يُعقد من أجل فلسطين وإسرائيل، وفي منطقة الشرق الأوسط بالذات، لأنها المنطقة التي طرحت التحدي الأكبر للولايات المتحدة بعد نهاية الحرب الباردة، واستطاع «إرهابيوها» كسر الأحادية القطبية التي عاشت الولايات المتحدة في وهمها زهاء العقدين من السنين. لقد تحدث اليمين الأميركي المحافظ والليبرالي كثيراً عن الخطر الأخضر وعن حرب الأفكار، لكن ما خطر لأي منهما غير العسكر وتحركات الأساطيل لمواجهته من دون أن يلاحظوا أن ذاك الخطر جديد في نوعيته من حيث انه ليس هناك مكان محدد تمكن مواجهته فيه وسحقه بالقوة القاهرة، أو بما سماه دونالد رامسفيلد عام 2004: الديبلوماسية العامة وحرب الأفكار. وقد قصدوا بالأمرين «تحبيب» العالم الإسلامي، وأميركا اللاتينية، بالولايات المتحدة من جديد من طريق تصدير أيديولوجيا السوق مع الديموقراطية الجاهزة والمورّدة في صناديق، تزيد من المشكلات ولا تعالجها، وتحميها عند الضرورة الجيوش والأساطيل.

مؤتمر أنابوليس إذاً طريقة لجأت إليها الولايات المتحدة لاستعادة الهيبة لكي تستطيع الاحتفاظ بالهيمنة والسواد وتجاه الأصدقاء والحلفاء، ويكون عليها لكي تُصبح طريقتها هذه فعالة أن تستعين بها أيضاً مع المنافسين والخصوم والأعداء. تستخدمها الآن لخدمة إسرائيل رغم أنفها، لأن إسرائيل مرت، على صغر حجمها وقدراتها مقارنة بالولايات المتحدة، بالتجربة نفسها: من كيان صغير محاط بالأعداء، ويستعين عليهم باستيراد الأسلحة من هنا وهناك، الى قوة ذات مدى استراتيجي قال عنه شارون عام 1983 إنه يمتد ما بين أوروبا وروسيا وشبه القارة الهندية وهضاب الحبشة! ثم ها هي إسرائيل تتحول الى عبء على الولايات المتحدة وعلى أوروبا (وحتى على روسيا)، تنسحب من لبنان عام 2000 فيتمركز «حزب الله» الأصولي على حدودها مدججاً بالسلاح ومن دون خوف، وتُضطر عام 2005 للانسحاب من غزة فتستولي حركة «حماس» الأصولية الأخرى عليها. هذا الصديق والحليف الذي صار مسكيناً شأن اليهودي التائه من قبل، لا ينفع الجبروت العسكري الخاص ولا الأميركي في حمايته. ولذلك لا بد من محاولة إنقاذه من نفسه، ومصالحته مع جيرانه، بعد أن كان بوش قد افتتح سياسته في الشرق الأوسط بإعطاء شارون أربعة عشر شهراً للتخلص من إزعاج الفلسطينيين الى الأبد. ويومها قال أحد وزرائه: بل لا نحتاج الى أكثر من ستة أشهر!

وتواجه الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب الباردة الى جانب الملف الإسلامي، ملفاً آخر أكثر خطورة على مستقبل هيمنتها، هو ملف التنافس في المجالات العلمية والاقتصادية والتنموية. وقد اعتقدت بالفعل - وخلال العقدين الماضيين - أن العولمة تعني السطوة والسيطرة دونما حاجة الى بذل مجهود كبير في منظمة التجارة العالمية، والأطر الدولية المشابهة التي كانت تُسيطر عليها من قبل. لكن التكتلات الاقتصادية تعددت وتضخمت وخرجت عن السيطرة أو تكاد. ولدى الولايات المتحدة سلاح ماض بالفعل وإن لم تكن تنفرد به، هو الأرجحية في ميدان القبض على موارد الطاقة الكبرى وممراتها. وبلدان الخليج وما حوله هي مواطن ذلك السلاح الذي يتعرض لتهديد شديد نتيجة نهجها العسكري، والمشكلات التي تخلُقها أو تزيدها استعاراً في منطقة الطاقة الرئيسية في العالم. لذا لا بد من الالتفات الى هذه المنطقة ومشكلاتها ودولها وناسها بغير الطريقة التي سلكتها في العراق، أو تمتد ألسنة لهب المتطرفين الى تلك الحقول الشاسعة للثروة والمجد والهيبة. لا بد من السياسة والديبلوماسية في حل المشكلات التي تصنع التطرّف، وتهدد المعتدلين، وتتسبب بتفاقمها في الإطاحة بالاستقرار. والعرب معتدلوهم ومتطرفوهم يعتبرون منذ زمن بعيد أن القضية الفلسطينية هي قضيتهم الأم - وقد كانت السياسات الأميركية خلال حوالي العقود الأربعة بين الأسباب الرئيسة لعرقلة حلِّها على أسس صحيحة وعادلة. لذا يمكن النظر الى أنابوليس بالمنظار نفسه الذي نُظر فيه الى مدريد، وإن تكن الولايات المتحدة وقتها أحسن حالاً وموقعاً.

لا شك في أن هذه الأمور كلها وُضعت في الاعتبار، ومن ضمن المتغيرات في الإدارة والسياسات خلال السنوات الثلاث الماضية. ومن ضمن ما وُضع في الاعتبار الأميركي: التحدي الإيراني. وهو تحدٍ لا يتناول أمن إسرائيل وحسب، بل يتناول أيضاً ما هو أهم: الوضع الجيو - سياسي في المنطقة، والوضع الاستراتيجي للولايات المتحدة في منطقة منابع النفط والغاز، والممرات الاستراتيجية. وقد أفادت إيران من الأخطاء الفادحة لإدارة بوش سواء في أفغانستان أو العراق، أو في نشر نفوذها في العالمين العربي والإسلامي. فإذا كانت فكرة «التسوية» بحد ذاتها، وفي فلسطين وغير فلسطين، ترمي إلى إنهاء «الكفاح المسلح» الذي اصطنعه الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة، وإنهاء «الجهاديين» الذين استخدمتهم الولايات المتحدة في الحرب الباردة أيضاً ثم خرجوا على السيطرة، فإن «التسوية» إن نجحت الآن حرية أن تُضرّ ضرراً كبيراً بالخطوط التي مدّتها إيران لإرغام الولايات المتحدة على القبول بها شريكاً مضارباً في منطقة الشرق الأوسط الجديد أو الكبير! ولذلك تنفرد إيران الآن بين دول المنطقة بالإعلان عن معارضتها مؤتمر أنابوليس بحجة أنه لن يأتي منه خير، وسيفرض حلولاً غير عادلة، في حين أن هناك شبه إجماع من «أصحاب القضية» على الذهاب الى المؤتمر ومحاولة الإفادة منه!

والطريف أن أكثرية المراقبين تنتظر نتائج أعمال المؤتمر للحكم عليه بالنجاح أو الفشل أو الرمادية، في حين أن الآثار بدأت في الظهور قبل حدوث المؤتمر العتيد، ومن ضمنها، أو من ضمن ضحاياها: الانتخابات الرئاسية في لبنان، والتي تعتبر الجمهورية الإسلامية الإيرانية عدم حدوثها إشارة الى ما تستطيع القيام به لمقاومة أو معارضة السيطرة الأميركية على المنطقة!



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد