حسن نافعة : حوار الثقافات والحضارات في بطرسبرغ

mainThumb

31-05-2007 12:00 AM

أتيح لي أن أشارك في مؤتمر دولي نظمته «مؤسسة التسامح الدولية للدراسات الإنسانية» التي يرأسها فيكتور تشرنوميردين، رئيس وزراء روسيا الأسبق وسفيرها الحالي في أوكرانيا، والذي عقد في مدينة بطرسبرغ يومي 23 و24 أيار (مايو) الجاري تحت عنوان: «تفاعل الثقافات والحضارات: حوار أم صراع»، وحضرته شخصيات ورموز كبيرة ومرموقة في مجالات السياسة والثقافة والتربية والإعلام والمال والأعمال وغيرها، كان من بينهم الأمير الحسن بن طلال، رئيس مجلس أمناء منتدى الفكر العربي. ورغم كثرة المؤتمرات الدولية والإقليمية التي تناولت موضوع حوار الثقافات والحضارات إلى درجة بات من الصعب معها العثور على أي جديد، إلا أنني حرصت على المشاركة في هذا المؤتمر بالذات لسببين: أحدهما ذاتي، يتعلق برغبتي الشديدة في زيارة روسيا التي لم تسبق لي زيارتها قط لأسباب خارجة عن إرادتي، والآخر موضوعي، يتعلق بتوقيت المؤتمر والذي ينعقد في وقت تبدو فيه روسيا في قلب تفاعلات نظام دولي يدخل منعطفاً جديداً.

صحيح أنه سنحت لي من قبل مناسبات عديدة لزيارة الاتحاد السوفياتي السابق، خصوصاً خلال فترة دراستي في فرنسا في السبعينات من القرن الماضي، كما سنحت لي، خصوصاً خلال السنوات العشر الأخيرة، مناسبات أكثر لزيارة الاتحاد الروسي في مرحلة ما بعد سقوط النظام السوفياتي. غير أنني لم أتمكن للأسف من انتهاز أي من هذه المناسبات لأسباب بدت حينها خارجة عن إرادتي. ولأن جيلي لم يتفاعل مع أي دولة في العالم، حباً وإعجاباً حيناً أو بغضاً وإشفاقاً وأسفاً في أحيان أخرى، مثلما تفاعل مع هذه الدولة سواء حملت اسم الاتحاد السوفياتي أو اسم روسيا الاتحادية، فقد كان من الطبيعي أن تتولد لدى هذا الجيل رغبة دائمة في التعرف الى هذا البلد المثير بشكل مباشر وعن قرب، بصرف النظر عن موقفه من نظامه أو تقويمه لمواقفه. فقد تفتح الوعي السياسي لجيلي مع بداية دخول الاتحاد السوفياتي كفاعل رئيسي على الساحة الشرق أوسطية، خصوصاً من خلال صفقة الأسلحة التشيكية عام 1955، وظل يتابع صعوده وتألقه ثم انهياره على الساحة نفسها قبل أن يختفي كلياً كقوة عظمى.

أعترف أن شعوراً بالخجل تملكني حين كنت أحاول تهيئة نفسي للسفر وساءلتها مستنكرا: كيف يمكن لباحث مثلي في العلوم السياسية أن تأتي زيارته الاستكشافية الأولى لواحدة من أهم الدول وأكثرها إثارة في النظام الدولي متأخرة إلى هذا الحد وبعد أن بلغ سن التقاعد؟ ولم يزدني هذا الشعور إلا تصميماً على اغتنام الفرصة المتاحة والعمل على عدم إهدارها هذه المرة حتى لو اقتصر الأمر على الاكتفاء بيومي المؤتمر. ولأن عددا من التطورات السياسية التي سبقت انعقاد المؤتمر كانت تشير إلى أن النظام الدولي يمر بانعطافة قابلة لأن تؤسس لمرحلة جديدة قد يكون لروسيا الاتحادية فيها شأن مختلف، فقد ازددت حرصا على السفر. ولفت انتباهي في هذا الصدد:

أولاً: قيام مجلة «فورين أفيرز»، الواسعة النفوذ والانتشار والقريبة من أوساط ومراكز صنع القرار الأميركي، بنشر مقالة في عددها الأخير (أيار/ مايو - حزيران/ يونيو 2007) عنوانها: «احتواء روسيا»، وهو تعبير يذكرنا بالأجواء التي سبقت الحرب الباردة مباشرة ويستخدم ذات المفردات والمصطلحات التي استخدمها جورج كينان قبل أكثر من نصف قرن حين كان ديبلوماسياً شاباً يعمل في السفارة الأميركية في موسكو. لكن الأهم من ذلك أن المؤلف هذه المرة ليس ديبلوماسيا أو باحثاً اميركياً شاباً، وإنما سيدة مخضرمة اسمها يوليا تيموشنكو زعيمة المعارضة في البرلمان ورئيسة الوزراء السابقة في اوكرانيا، حيث يعمل تشرنوميردين، رئيس المؤسسة الداعية والمنظمة لمؤتمر حوار الثقافات والحضارات في بطرسبرغ، سفيرا لروسيا الاتحادية.

وثانياً: قيام كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الاميركية، وقبل فترة قصيرة من الموعد المحدد لانعقاد المؤتمر، بزيارة لموسكو استهدفت تهدئة مخاوفها من مشروع الدرع الصاروخي الذي تنوي الولايات المتحدة إقامته في عدد من الدول المجاورة، ومنها أوكرانيا، التي كانت حتى وقت قريب جزءاً لا يتجزأ من منظومة الأمن الروسي. ولأن دلائل عديدة كانت تشير إلى فشل زيارة رايس، في ظل إصرار الولايات المتحدة على المضي قدما في برنامجها الذي يعتبره الاتحاد الروسي تهديدا مباشرا لأمنه الوطني، فقد رأى فيها كثير من المراقبين مؤشرا على أن روسيا ربما تكون بصدد التعافي نهائياً من عثرتها التي بدأت قبل عقدين من الزمان.

وعلى رغم أن الموضوع المطروح للنقاش في مؤتمر بطرسبرغ المشار إليه بدا في ظاهره بعيداً عن السياسة، إلا أنه كان من الصعب تصور إمكانية تجنب هذا الأمر في مؤتمر دولي يعقد على هذا المستوى لمناقشة قضية هي في جوهرها سياسية في الواقع، حتى وإن حاولت التخفي تحت عباءة الثقافات والحضارات الفضفاضة. من هنا قناعتي بأن حضور المؤتمر ربما يفيد في قياس درجة حرارة السياسة في روسيا، حتى لو لم يضف جديداً إلى قضية حوار الثقافات والحضارات.

بدت لي مدينة بطرسبرغ حين وطئتها أقدامي هي الأكثر قدرة على التعبير عن تاريخ روسيا السياسي والثقافي والحضاري بكل بهائه واضطرابه. ولأن هذه المدينة، والتي بناها بطرس الاكبر في بداية القرن الثامن عشر لتكون عاصمة للامبراطورية ونافذة على أوروبا، غيرت اسمها ثلاث مرات لتصبح بتروغراد (1914 - 1924) ثم ليننغراد (1924 - 1991) قبل أن تعود مرة أخرى إلى اسمها الأصلي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فقد بدا اسمها معبّراً خير تعبير عما أصاب نظامها السياسي والاجتماعي من اضطراب وتقلب. أما قصورها ومتاحفها وفنونها المختلفة فتعكس عراقة وعظمة الحضارة الروسية بكل أبعادها وفي مختلف المجالات. ومن المعروف أن هذه المدينة تضم واحداً من أكبر وأهم أربعة متاحف في العالم وهو الأرميتاج. على صعيد آخر، تكفي نظرة عابرة على وجوه الناس في شوارعها المزدحمة، وعلى واجهات محالها الأنيقة الأوروبية الطابع، وعلى قائمة أسعار فنادقها ومطاعمها المكتظة، وعلى الإعلانات المبتكرة للشركات الدولية المثبتة عند مفارق طرقاتها ونواصيها لتدرك حجم التغير الذي طرأ على البلاد والعباد في كل المجالات منذ سقوط النظام الشيوعي. لكن ذلك كله لا يحول دون مشاهدة الزائر للمدينة بمظاهر أخرى كثيرة تذكره ببقايا النظام القديم: إجراءات أمنية بالغة الصرامة في المطارات، وإجراءات بيروقراطية بالية وبالغة التعقيد عند التسجيل والإقامة في الفنادق، وإجراءات غير مألوفة للاتصالات التليفونية الخارجية ...الخ.

ما إن اكتمل تجمع المشاركين في المؤتمر في بهو قصر يوسوبوف الجميل حتى بدأوا يتجهون نحو المسرح الصغير المخصص لعقد الجلسات الافتتاحية والعامة والختامية تصحبهم أصداء موسيقى تنبعث من عازفين وعازفات اصطف بعضهم على جانبي الممرات بينما جلس بعضهم الآخر في الشرفات في مشهد بدا أسطوريا وقيصري الملامح والقسمات. غير أن الكلمات التي ألقيت في الجلسة الافتتاحية والأبحاث التي لخصت في الجلسات العامة والمناقشات التي جرت حول الموائد المستديرة الخمس التي توزع عليها المشاركون، أعادت الجميع بسرعة إلى حقائق عالم معاصر مليء بتناقضات وصراعات ومظاهر تطرف كثيرة جاء الجميع يبحثون في كيفية تحجيمها والعثور على ارضية مشتركة للتعايش والفهم المتبادل بين بشر ينتمون الى ثقافات وحضارات، محاولين العثور على سبل تعينهم على تحويل التباين إلى تنوع يغني ويوحد وليس إلى تنافر يقصي ويفرق.

وتحدث الامير الحسن بن طلال باستفاضة في الجلسة الافتتاحية، ثم قاد النقاش في المائدة المستديرة الرئيسية المخصصة لبحث سبل حل الصراعات بين الشرق والغرب بالاشتراك مع نائب وزير الخارجية الروسي السيد كاراسن (بدلاً من رئيس الوزراء السابق بريماكوف الذي اعتذر عن عدم الحضور في اللحظة الأخيرة لظروف طارئة)، وتحدث مرة ثالثة في الجلسة الختامية. ومن الواضح أن مداخلات الأمير الحسن لفتت أنظار الحضور بشدة، خصوصاً هؤلاء الذين كانوا يشاهدونه ويستمعون إليه لأول مرة لأنها تتسم، في تقديري، بثلاث سمات ميزتها بشدة عن غيرها من المداخلات. السمة الأولى: القدرة على نحت المصطلحات المبتكرة التي تثير التأمل وتعكس عمق التفكير، والثانية: توجه إنساني يعكس التزاما واضحا بقضايا وهموم الفقراء والمحرومين والمهمشين والمنكوبين، أينما كانوا وبصرف النظر عن جنسياتهم ومعتقداتهم الدينية والسياسية. والثالثة: صدق في القول وإخلاص في المشاعر يصل إلى القلب بسرعة بسبب بُعده عن أي هوى أو غرض أو ادعاء.

وعلى سبيل المثال، فقد تردد مصطلح التسامح آلاف المرات في هذا المؤتمر، غير أن الأمير الحسن بدا شديد الحرص على تأكيد ضرورة وحتمية التلازم بين قيم التسامح وقيم العدل، معتبراً أن كلاً منهما يتوكأ على الآخر ولا يستطيع أن يستغني عنه.

فإذا ما نحينا هذه المسألة جانبا سنجد أن منظمي المؤتمر كانوا حريصين على تخصيص مائدة مستديرة حول «الثورة الديموغرافية وطبيعة الأزمة التنموية التي تواجه البشرية»، قاد النقاش فيها البروفيسور سيرجي كابيتزا، كبير الباحثين في معهد العلوم الفيزيائية في روسيا الاتحادية وصاحب الكتاب المهم والشهير في هذا الموضوع والذي ما زال يثير الكثير من الجدل، كما لفت نظري ايضا اهتمام منظمة اليونسكو وبعض المنظمات المتخصصة الأخرى التابعة للأمم المتحدة بالمؤتمر وحرصها على المشاركة فيه. فقد مثل اليونسكو عدد من الشخصيات على رأسهم سفير عمان والرئيس الحالي للمؤتمر العام الدكتور موسى بن جعفر بن حسن، وألقى كلمة في الجلسة الافتتاحية، وخصص المؤتمر مائدة مستديرة لمناقشة موضوع: «التعليم كأداة للتفاهم والتضامن الاجتماعي»، وهو موضوع يبدو بالغ الأهمية، شارك فيها عدد من خبراء اليونسكو، كما شاركت فيها الدكتورة نفيس صادق التي سبق لها أن رأست مؤتمر الأمم المتحدة للسكان في القاهرة، ولأنه يصعب، على اي حال، تلخيص كل ما دار في هذا المؤتمر من مناقشات، أو ما طرح من أفكار، أود في ما تبقى من مساحة أن أطرح عددا من الانطباعات والملاحظات الختامية على هذا المؤتمر، ألخصها على النحو التالي:

1- جاء غالبية المشاركين في المؤتمر من الاتحاد الروسي والدول المجاورة ولم يول أهمية كبيرة للتوازن بين مختلف الثقافات والحضارات، ولذا بدا المؤتمر أقرب ما يكون إلى اجتماع للخبراء منه إلى حوار بين متحدثين باسم مختلف الثقافات والحضارت.

2- عكست المناقشات فهماً روسياً خاصاً للحوار بين الشرق والغرب يختلف عن الفهم السائد في الغرب ويبدو متأثراً بطبيعة المشكلات القومية التي تعاني منها روسيا. ويمكن إدراج هذا الاختلاف في إطار رغبة روسيا في فهم ما يدور في محيطها الإقليمي تمهيداً لاستعادة نفوذها فيه على أسس أكثر صلابة.

3- بدا واضحاً صعوبة معالجة المشكلات الناجمة عن اختلاف الثقافات والحضارات بمعزل عن معالجة بقية المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العالم. من هنا بدا الاتفاق واضحا على أن معالجة هذه المشكلات تتطلب اقترابا يقوم على تكامل المناهج ودمقرطة الآليات المستخدمة في عمليات اتخاذ القرار الدولي.

لم يفتني في نهاية المؤتمر أن أحرص على مشاهدة القاعة التي استدرج إليها راسبوتين في هذا القصر البديع. غير أنني لم أستطع أن أمنع نفسي حينئذ من التساؤل عما إذا كان سلوك راسبوتين ينم عن شخصية متطرفة، وعما إذا كان يجوز التسامح مع أمثاله. وقلت في نفسي لو طرح هذا السؤال على المشاركين في نهاية المؤتمر لاختلفت إجاباتهم. وفي أي حال فلا أحد يقبل التسامح مع الظلم!

نقلا عن : الحياة



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد