الأزمة المالية العالمية والشرق الأوسط: فرصة للتعاون والأمن الإقليمي

mainThumb

18-10-2008 12:00 AM

بدأت الأزمة المالية العالمية بانفجار فقاعات الرهن العقاري والائتمان في الولايات المتّحدة، لكنّها آخذة بالانتشار السريع في كافة أنحاء العالم. وقد طال تأثيرها الشرق الأوسط، حتى المناطق التي لا ترتبط مباشرة بالسوق العالمي.
في هذه المرحلة، لا يزال المنظور الاقتصادي للمنطقة إيجابيًا بشكل نسبي. فحتى قبل الأزمة المالية 2007-2008، كان الشرق الأوسط عمومًا يسير على طريق النمو ويزخر بالفرص الاقتصادية. تم تحرير الأسواق في العديد من دول المنطقة عبر التعليمات المرنة بشأن المُلكية الأجنبية والاستثمار والضرائب، والحوافز الرئيسية لأعمال القطاعين الأجنبي والخاص. كما قلّت مخاطر تنفيذ المشروعات، في الوقت الذي أصبح فيه العديد من دول المنطقة أعضاء في منظمة التجارة العالمية.
وبينما تُقدّر مساهمة المنطقة العربية بـ 2.5% فقط من معدل النمو الاقتصادي العالمي، باستثناء صناعة النفط، إلا أنها لم تحقق التكامل الكلي ضمن الأسواق المالية العالمية. ورغم ذلك فإن هذه العزلة النسبية يمكن أن تساعد على حماية المنطقة من تأثيرات الأزمة المالية الحالية.
كذلك، لا تزال المشكلات الاقتصادية الرئيسية في المنطقة متعلقة بالبنية التحتية والقدرة الاستيعابية. منذ حالة الرخاء الاقتصادي التي سادت سبعينيات القرن الماضي، أنفقت البلدان المنتجة للنفط في المنطقة مبالغ كبيرة من العائدات على مشروعات تنموية مختارة. ومع ذلك، فإن اعتمادها على صادرات النفط والغاز والعمالة الأجنبية حال دون تطوير قاعدة إنتاج متكاملة بشكل كلي. ولم تحقق دول الشرق الأوسط غير المنتجة للنفط منفعةً إقليمية كاملة من الازدهار النفطي من أجل الاستثمار بشكل كاف في الخدمات الاجتماعية والبنى التحتية.
ظلّ النمو الاقتصادي في الشرق الأوسط عمومًا ينتج في غالبه عن الإيرادات النفطية والاستثمارات العقارية ومشروعات الإسكان والسياحة والمساعدات الأجنبية، بدلاً من المشروعات الإنتاجية. وحيث لم يتم ضخ فائض الثروة من أجل بناء قاعدة صناعية وبنية تحتية قوية، فإن عدم القدرة الكاملة للمنطقة على استيعاب الدخل والاستثمار بطرق متنوعة يمكن أن يؤدّي إلى زعزعة الاقتصاد إذا ما تفاقمت حالة الكساد المالي العالمي.
لا تعتمد منطقتنا على الاقتصاد الدولي بقدر اعتماد مناطق أخرى من العالم عليه. إلا أن الزراعة والتصنيع في الشرق الأوسط - القطاعين الرئيسيين في توفير فرص العمل - أصبحا أقلّ تنافسية بسبب الضغط المتزايد على تصدير السلع إلى الأسواق العالمية بأسعار أدنى. وأدى ارتفاع أسعار السلع إلى تجاوز التضخم نسبة الـ 10% في معظم بلدان المنطقة. كما ساهم ربط العديد من العملات العربية بالدولار الأمريكي في تصاعد نسبة التضخم.
نجم عن التدفق الكبير للعملات الأجنبية إلى دول المنطقة في السابق، سواء من النفط أم المساعدات، ارتفاع في قيمة العملات المحلية.
ومع انخفاض الدولار الأمريكي حاليًا، أصبحت البنوك المركزية في المنطقة مرغمة على إبقاء أسعار الفائدة تحت معدل التضخم. فإذا طالت فترة الكساد المالي العالمي، لن يتم التعويض عن التضّخم في أسعار الاستهلاك في الغذاء والنفط من خلال عائدات أعلى. إن ارتفاع أسعار السلع سيفيد بعض المنتجين والمستثمرين، لكن الأجور لا ترتفع بسرعة كافية لمجاراة التكلفة المتصاعدة للغذاء والوقود والإيجارات. وسيستمر تأثير هذا الأمر على المناطق الفقيرة.
تؤدي هذه العوامل مجتمعة إلى تفاقم التباين الاجتماعي والاقتصادي في المنطقة بين طبقة غنية جدًا وشريحة دنيا من الطبقة المتوسطة وطبقة فقيرة. ويصاحب الهبوط الأخير في أسعار النفط إلى ما دون الـ 100 دولار أمريكي للبرميل، إلى جانب خسارة الاستثمارات العربية في أسواق الأسهم المالية العالمية، انخفاض في مستوى العائدات التي ترِدُ إلى المنطقة من التجارة والاستثمار الأجنبي المباشر. إن أي تباطؤ طويل المدى في الاقتصاد الدولي سيؤدي إلى انخفاض في الحوالات المالية وفي خلق فرص العمل والسياحة والمساعدات الأجنبية، وإلى ارتفاع في نسبة البطالة، خصوصًا بين الشباب. كما سيبطئ الكساد الاقتصادي تدفق العمّال العرب المتعلّمين إلى الوظائف في القطّاع النفطي.
قبل وقوع الأزمة المالية العالمية، جنت المنطقة الفوائد سواءً أكانت أسعار النفط مرتفعة أم منخفضة. حيث إن في المنطقة إنتاجًا للنفط واستهلاكًا له. لكن، من المحتمل أن يعاني المنتجون والمستهلكون في الشرق الأوسط الآن من أسعار النفط، سواءً في ارتفاعها أم هبوطها، في ظل انتشار الأزمة المالية بسبب الهبوط المطّرد في الاستثمار الأجنبي بالمنطقة، إضافة إلى عدم ثبات قِي?Zمِ العملات الإقليمية بسبب الربط النقدي المباشر بالدولار الأمريكي الآخذ في التقلص التدريجي. حتى إذا كانت أسعار النفط سترتفع إلى مستوياتها السابقة التي كانت عليها في تموز 2008، فإن هذا سيشكل عبئًا ثقيلاً على العاطلين عن العمل والفقراء بالإضافة إلى القطاعات الاجتماعية الأغنى بسبب الانخفاض في قوتها الشرائية.
تتزايد احتمالات التوتر والنزاع في ظل تفاقم الفقر في بعض مناطق الإقليم. وتشير دراسة حديثة لمنظمة "أوكسفام" الدولية إلى أنّ الشعب العراقي في حاجة ماسة إلى المعونات العاجلة، بالرغم من امتلاك الحكومة العراقية إيرادات نفطية ضخمة. كما توجد حالات أخرى من التقلّب السياسي في المنطقة. وفي غياب الوظائف والدخل الثابت، ثمة احتمال حدوث التوترات الاجتماعية. كما تشكّل احتمالية وقوع نزاعات أخرى في المنطقة عقبةً في وجه الاستثمار الأجنبي. لن يستطيع الشرق الأوسط تحمّل الجمود السياسي المطرد وعدم تفعيل التكنولوجيا والمهارات الإقليمية والموارد البشرية خلال هذه الفترة الحرجة.
يمكن النظر إلى التراجع في الأسواق المالية بوصفه فرصة فريدة للاستثمار والإصلاح الإقليميين. فهي تشجّع دول الشرق الأوسط على البدء بسيرورة فوق قُطرية للتعاون والأمن. إذ يمكن لبلدان الشرق الأوسط أن تُوسّع تعاونها الإقليمي في مجالات المياه والطاقة والبيئة ليشمل الزراعة والصناعة والمعلومات والتعليم، وذلك من خلال اتفاقيات عبر إقليمية تركّز على بناء الثقة والتعاون والأمن.
كذلك، يجب أن يتم ربط التعاون عبر الإقليمي في هذه المشروعات بميثاق اجتماعي - ميثاق قانوني للتوزيع العادل للمصادر والاستثمار المالي المدروس في مجال الأمن الإنساني. لقد تم اقتراح ميثاق مواطنة للمنطقة من قبل مجموعة "أصوات من غرب آسيا" و"تجمّع مواطني الشرق الأوسط" و"سيرورة هلسنكي للعولمة والديمقراطية"، إضافة إلى شخصيات من جنوب آسيا.
ثمة حاجة إلى المزيد من العمل في مجال التعليم لخلق وعي بهذه العملية. لا بد أن تبدأ مختلف القيادات بالتركيز على منافع التعاون الإقليمي وعبر الإقليمي، الذي يشمل المجتمع المدني والحكومات وقطاع الأعمال والمستثمرين. سيكون الاستثمار الإقليمي فرصة جيدة لصناديق الثروة السيادية، والمصارف الاستثمارية والمستثمرين الأغنياء الذين أصبحوا أكثر حذرًا منذ وقوع الأزمة الاقتصادية.
طبقًا لتقديرات متعددة، بلغت قيمة صناديق الثروة السيادية في منطقة الخليج العربي خلال صيف عام 2008 حوالي 1.5 تريليون دولار أمريكي. وقد ينخفض هذا الرقم بشكل ملحوظ نتيجة للصدمات والخسائر المالية العالمية في بعض الاستثمارات في ضوء الانهيار المالي في شهري أيلول الماضي وتشرين الأول الجاري. لكن، قد تجد صناديق الثروة السيادية التابعة للدول النفطية، والبلدان الآسيوية الأخرى الغنية بالنقد أن الاستثمار في مشروعات الشرق الأوسط للتعاون الإقليمي وعبر الإقليمي بديل واعد للاستثمارات الحالية في الأسهم والعقارات.
يكمن التحدي في العالم العربي في تطوير إطار ينتقل من الاستهلاك إلى الإنتاج، ويعيد التكامل بين العمل والثروة، ويستبدل السياسة بالسياسات ويركّز على التنمية الإنسانية. إن وجود عملية عبر حدودية تبني الثقة والتعاون من خلال اتّخاذ القرارات الجمعية يمكن أن يؤدّي إلى نهج شامل للتعامل مع التوتّرات السياسية في منطقة الشرق الأوسط.
لا بدّ أن تهدف الاتفاقية عبر الإقليمية للتعاون والأمن إلى بناء السلام وتحقيق الازدهار وترسيخ الديمقراطية والأمن الإنساني في المنطقة. فهذا من شأنه أن يحمي المنطقة من الأزمة المالية العالمية ويقوّي بناها التحتية وقدرتها الاستيعابية. كما يؤسس لقاعدة مستقرّة للتعافي بعد أن يهدأ الإعصار الاقتصادي.
(عمّان – مجلس الحسن – 18/10/2008)
___________________________________________________
(*) رئيس منتدى الفكر العربي وراعيه؛ عضو في لجنة التمكين القانوني للفقراء؛ رئيس شرف منظمة المؤتمر العالمي للأديان من أجل السلام؛ سفير الإيسيسكو للحوار بين الثقافات والحضارات.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد