ناهض حتر صوت المرحلة

mainThumb

14-09-2008 12:00 AM

رغم جرحه النازف إلا أن قلبه المفعم بالحيوية والحركة وقلمه النابض بالحياة والعنفوان، وشكيمته الصلبة، وغيرها من المزايا التي اجتمعت بناهض ولم تجتمع لغيره تجعلني أقول أنه من القلائل في وطننا الغالي الذي لديه رؤية واضحة المعالم لمشروع وطني نهضوي متكامل وبالتالي نستطيع القول أنه بحق صوت المرحلة رغم الجروح والأحزان.
وكأني بناهض يبحث عن وطن يخفق قلبه بحبه وهواه، دون أن يجده أو يحنو عليه، وكأن إخلاصه وحبه لهذا الوطن من طرف واحد، متعب في حبه للأردن وكأن أردنيته لعنة وعذاب، وإذا كنت أحار ولا أجد مبرراً لهذه القسوة فإن ما يثير إعجابي بناهض أنه بالرغم من هذا الإخفاق وما يترتب عليه من معاناة وألم وشعور بالإقصاء والحرمان فإنه لم يستسلم فالسوداوية والحسرة ومنابع الحزن لا تجد طريقاً إلى قلبه الهائم المتيّم في هذا الوطن.

من يعرف أبا معتز عن قرب ويتعرف على مسيرته النضالية لا يتفاجأ بسلوك ناهض العنيد ومواقفه المتشدده أو شموخه وكبريائه الوطني، فهو جريء في أفعاله إلى حد اللامعقول، صريح في أقواله ولا يبالي، ليس بالإنسان المتلوّن الذي يبدل مواقفه تبعاً لمصالحه، ليس له وجهين ولا يجيد اللعب على الحبلين، ركب المصاعب وشقي كثيراً وتعذب أكثر دون أن تلين له قناة أو يتهيب من حوادث الزمان ونوائبه.

ليس بوسع ناهض أن يلوذ بالصمت وهو يرى الانهيار المريع للإنسان وسقوطه، بعد أن أصبحت البلاد سوقاً يباع فيه بني البشر، فتجار الحروب أولاً والأوطان ثانياً والإنسان ثالثاً لا يخجلون حتى من أنفسهم، وليس لديهم ذرة من الإحساس بالمسؤولية تجاه هذا الوطن فيبادروا إلى الرحيل ليكفّروا عن عقوقهم للوطن، كيف لناهض أن يلوذ بالصمت وهو يرى بأم عينه كيف يُنحر الوطن وكيف يُقصى الشريف ويبعّد القريب ويقرّب البعيد ويمجّد الفاسد الفاسق العابث بالمال العام المتطاول على مقدرات الوطن، ويضيّق على الأحرار وأصحاب الدار، فالصمت في مثل هذه الظروف تواطؤ وخيانة وأقرب إلى أكل لحم الأخ الميت، فهل يصمت أبا المعتز أمام هذا الإلحاد السياسي والأخلاقي؟!

روى لي ناهض أنه عندما يضطر للسفر خارج البلاد سواء بدوافع العمل أو الراحة والاستجمام مع العائلة، فإنه يصاب بمرض غريب لا يشفى منه إلا بالعودة إلى الديار، فهو لا يجد أمن نفسه، وطمأنينة روحه إلا في حمى الأردن، فالأردن ملازمه في الحلم واليقظة وفي الحل والترحال، رابضاً دوماً في عروقه يحبه ويخاف عليه ويصونه صيانة البخيل لجوهرة نادرة، وإذا ضاقت به عمان وكثر بها الأفاقون، يخف إلى جلعاد في البلقاء حاضرة الأردن، فيجد فيها الأم الرؤوم التي تضمه إلى صدرها، ولو شد الرحال إلى عجلون أو شيحان أو ماء راحوب لكان موضع الحفاوة والتقدير والاحترام في كل منزل ومكان.

عملت مع أبا معتز على مشروع إعادة إحياء المؤتمر الوطني الأردني عام 1928 فوجدت فيه الإنسان الملتزم المتواضع، خفيف الروح والظل، لا يبحث عن مجد زائف أو مكاسب شخصية، فلا يقدم الوعود المعسولة، ولا يمني زملائه وأنصاره بالقصور والآنسات الحور، وإنما يرسخ لديهم القيم الوطنية والشيم الأردنية في التضحية والإيثار، وجدته طيب الكلام وعلى درجة عالية من حسن الخلق، يوحّد الجهود ويربطها بحبل قوي وهو حبل الأمل والثقة فلا مجال للإحباط أو التراجع أو الخوف، أو التردد، فمن الحزن يولد المرح ومن المطر يأتي الخصب والزرع فتورق الأشجار وتتفتح أجنة الأزهار وتروي الظمأ وتشبع الجوع وتزرع الأمل والثقة والحلم.

قاد ناهض باقتدار مشروع ثقافي وطني ضخم، وانجز بمجهود شبه فردي ما عجزت عن إنجازه مؤسسات ضخمة مسلّحة بالأموال والإمكانات وجيوش من المتنفعين القابعين في كهوف الكسل والبلادة والروتين، ولم يتغيب عن المشهد السياسي الأردني فأصبح نموذج وقدوة تستهوي الكثير من الشيوخ والشباب من الرجال والنساء من رواد العمل الوطني الجاد، يجد التأييد الكامل في نفوس الحراثين وأبناء البادية وسكان المدينة الناقمين على الرأسمالية المتوحشة والليبرالية المخادعة، فقد سئم الناس كل هذه النظريات المفلّسة.

أما اللذين يغيظهم ويرفع ضغطهم ويمزق أعصابهم كتابات وأفكار ناهض فلا يترددوا أن يقولوا فيه ما لم يقله مالك في الخمر، فإننا نبتسم لهم ولسان حالنا يقول: يحق لناهض أن ينفرد بالفخر بأن سقفه هو الأعلى، فليقل ما يشاء، وليس من الضرورة أن تكون كل آرائه واجتهاداته صائبة، ولكن لا نريده أن يكسر حدته أو يتراجع قيد أنملة عن مبادئه وقناعاته، وأن يبقى كعهدنا به كله عزيمة وثبات وحب وإيمان وصلاة مكرساً جهده في سبيل عظمة الأردن ومجده العظيم.

إن أبا معتز الذي عُذب واعتقل وتعرض لمحاولة اغتيال كان على أثرها بينه وبين الموت شعره، ونُفي عاماً إلى بيروت، وفقد وظيفته مراراً ولا زال لديه كل هذه الطاقات وهذا العطاء وهذا الحب الوحشي للأردن، فإن لديه ألف عذر في كل ما يبوح به وفي تعصّبه للأردن، وإذا كان متطرفاً في حبه للأردن فليس ذلك إلا لأن الطرف الآخر متطرفاً في تآمره على الأردن.

وخلاصة ما أريد أن أقوله أن ناهض حتر الزعيم الوطني النبيل الكبير الإنسان قد اختار طريقه بنفسه وهو يجد سعادة لا تضاهيها سعادة في أن يدفع من لحمه سداداً لدين الحرية والكرامة والمروءة والرجولة والشرف، ولو اختار أبا معتز طريقاً غير الذي سلك، فإنه لن يرضى عن نفسه، فاختار ما اختار، وطريق الحر صعبة وشاقة ومرة ولكن ما يبعث فيها الحلاوة أنها يتجاوز فيها الإنسان ذاته وزمانه ومكانه، فإذا لم يزيد المرء في هذه الحياة شيئاً جديداً فإنه بلا شك عبئاً وزيادةً عليها.

سنستأنف مسيرتنا المباركة برفقة أبا المعتز، نشد أزره وندفع عنه كل ضلالة أو حيف يلحق به، ونترقب كتاباته بلهفة وشوق، فنحن شركاء في المسيرة والمصير في الهم والحلم سواء بسواء فنحن حددنا موقفنا بكل وضوح وأمانة وصدق وصراحة بما يرضي الله والضمير ويلبي طموحات الأجيال المستقبلية.

أخي أبا المعتز، لك منا محبة لا تنقضي ووفاء لا يحول، وندعو الله أن يصونك ويرعاك ويوفقك لخدمة الوطن والعرش الهاشمي وأمة العرب. وختاماً فإن هناك أموراً عديدة في فكر وشخصية ومسيرة وأسلوب عمل ناهض حتر لم يتح لكاتب هذه السطور أن يتناولها في هذه المقالة السريعة، ولكن نأمل العودة إليها في قادم الأيام بإذن الله.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد