شطط الإعلاميين وتجار السياسة في فهم رؤى واجتهادات رجل الدولة أحمد عبيدات

mainThumb

19-09-2008 12:00 AM

في البداية أود أن أؤكد إنني ترددت كثيراً قبل كتابة هذا المقال، لعدد من الاعتبارات والأسباب لعل أبرزها:

أولاً: إن دولة السيد أحمد عبيدات ليس متهماً – حتى يحتاج إلى مرافعة دفاعية سواء عن شخصه أو مسيرته أو نهجه في العمل السياسي، ولا أحد كائناً من كان يستطيع أن يزايد عليه أو يبيعه وطنية وانتماء، فهو أردني التابعية متجذر في تراب هذا الوطن، مخلص للعرش الهاشمي والشعب الأردني دون مطمح أو مطمع، ولا يلتفت إلى هرطقة الذين يحاولون الاصطياد في الماء العكر في سعيهم للأمجاد الزائفة بالطرق الرخيصة.

ثانياً: إنني لا أجيد المجاملة أو النفاق السياسي والاجتماعي، ولا أقبل المساومة على الحقوق والمبادئ، أقول كلمتي وأمشي ولا ابتغي مرضاة أحد من الكائنات البشرية، ولكن كأكاديمي ومثقف أؤمن أن للمثقف رسالة في المجتمع، وأن عليه مسؤولية تجاه الوطن، فلا يجوز أن يصمت أو يغيب أو يبقى بعيداً عن الواقع منسلخاً عن هموم شعبه وتطلعاته في الحرية والحياة والعيش الكريم والأمن والتقدم والتنمية والتحديث.

ثالثاً: إنني لا ثأر لي مع خصم أو عدو شخصي أحاول الإضرار به أو الغمز من قناته، لذا آمل أن يؤخذ طرحي في هذا المقام بنوايا حسنة بعيداً عن الشخصنة، فأنا أقدم وجهة نظري سعياً وراء مقاصد نبيلة وقيم عليا أبرزها المشاركة والاهتمام بالشأن العام وواجب الحرص على الوطن ومقدراته، وبالتالي فإنني سوف أتناول الموضوع برؤية منطلقة من التزامي بالدفاع عن الثوابت الوطنية والانتماء لهذا الوطن الغالي والإخلاص لقيادته الهاشمية الشرعية الفذة، وهذه رؤية ترافقني في مختلف مراحل حياتي الفكرية والعملية أو في حلّي وترحالي، وفي البيت والجامعة والمقهى وغيره.

وأبدأ بالحديث عن شخص أحمد عبيدات وأقول دون تردد أنه من الأشخاص القلائل من رجالات الدولة الأردنية الذين يحظون بثقة واحترام القيادة السياسية والشعب الأردني على حد سواء، فعلى الصعيد الرسمي، كان محط ثقة المغفور له جلالة الملك الحسين، فأشغل أعلى المواقع في الدولة الأردنية وأكثرها حساسية، فقد كان مديراً لدائرة المخابرات العامة، هذه المؤسسة الأمنية التي كانت ولم تزل وستبقى بعون الله وبفضل جهود القائمين عليها محط فخر واعتزاز وثقة القيادة والشعب بفضل الإنجازات التي حققتها على مدى العقود والسنوات الماضية، ثم انتقل إلى وزارة الداخلية وهي المعنية بكافة الأجهزة والمؤسسات الأمنية في دولة تضع الأمن والاستقرار على رأس الأجندة الوطنية، إذ لا مجال للمساومة أو الاجتهاد في هذا الموضوع ولا سيما بالنسبة للدولة الأردنية التي تقع في قلب أكثر مناطق العالم سخونة وعدم استقرار حيث الحروب والاحتلال والمؤامرات.

ومن وزارة الداخلية انتقل إلى رئاسة الوزراء وهو أعلى منصب سياسي في الدولة الأردنية، وبعدها كلفه المرحوم الملك الحسين برئاسة اللجنة الملكية للميثاق الوطني والذي يعد إنجازه خطوة نوعية على طريق مأسسة البناء الديمقراطي وترسيخ الحياة النيابية وإقامة دولة القانون والمؤسسات والتعددية السياسية.

وفي عهد جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين حفظه الله فقد جددت الثقة بشخص السيد أحمد عبيدات من خلال عضويته في مجلس الأعيان الذي هو مجلس أصدقاء الملك أو نادي يجتمع فيه عقول الدولة الأردنية وكذلك أسند إليه جلالة الملك رئاسة مجلس أمناء المركز الوطني لحقوق الإنسان والذي يعتبر من أنجح المؤسسات المعنية بحقوق الإنسان على مستوى الوطن العربي أو العالم الثالث، إضافة إلى مرافقته لجلالة الملك في العديد من الزيارات الرسمية لمختلف عواصم العالم.

أما على الصعيد الشعبي فالحقيقة أن دولة السيد أحمد عبيدات يحظى بإجماع الشعب الأردني على تقديره واحترامه سواء من الذين يختلفوا معه أو الذين يتفقوا معه ويشاركونه وجهة النظر والاجتهاد، ولا أكشف سراً إذا قلت أنه حتى أولئك الذين سجنوا وعذبوا في عهده وأعرف منهم الكثير من المناضلين لا يزالون ينظرون إليه باحترام وتقدير ومنهم من يعتبره رجل المرحلة لمواجهة ما يراد بالأردن من شرور وأخطار.

أما فيما يتعلق بنهج وفلسفة ورؤى دولة السيد أحمد عبيدات فإنني لا أبالغ إذا قلت أن لديه الكثير الكثير من المواقف التي هي بحق مبعث افتخار وإعجاب وأتباع وتأييد، وأود هنا أن أتوقف عند بعض المحطات في مسيرة أو نهج وسياسة دولة السيد أحمد عبيدات ذلك أنها تلقي أضواءً كاشفة على فلسفته واجتهاداته ومواقفه، ذلك أن المقام لا يتّسع لاستعراض مسيرة الرجل الطويلة، ولكنها باعتقادي محطات كافية للحكم على الرجل بموضوعية بعيداً عن التسرع في إطلاق الأحكام الجازفة مثلما يفعل بعض كتاب التدخل السريع.

فعندما كان مديراً لدائرة المخابرات العامة فقد رفض إقامة أية اتصالات أو علاقات مع اليهود في الوقت الذي كانت الكثير من أجهزة الاستخبارات العربية على اتصال وثيق بدولة إسرائيل مثلما كشفت الأحداث لاحقاً، وهذا موقف يسجل له بالرغم من تحفظنا على الكثير من الممارسات والعقليات العرفية في تلك الفترة.

وعندما تولى رئاسة الحكومة فقد كان أول شعار رفعه هو قانون من أين لك هذا؟ وقد أعلن الحرب على الفساد والمفسدين وزج بعدد منهم في السجن بعد محاكمتهم، وعندما تولى رئاسة اللجنة الملكية للميثاق الوطني فقد حرص على إشراك كافة ألوان الطيف السياسي في الأردن وفي مقدمتهم ممثلي المعارضة السياسية انطلاقاً من فلسفته أنه لا استبداد في الرأي والقرار سواء في الحكم أو المعارضة وبفضل رعايته وجهوده والفريق الذي عمل معه تم التوصل إلى الميثاق الوطني الذي كان يهدف إلى تمهيد الطريق نحو حالة تصبح فيها الديمقراطية نهجاً فكرياً وسلوكاً سياسياً وأخلاقياً عاماً.

لقد آمن رجل الدولة أحمد عبيدات أن الشفافية والرقابة والمحاسبة والنقد البناء هي من أبجديات العمل السياسي الوطني، وهو إذ آمن بهذه المبادئ فلم تلن له قناة ولم يستسلم لضغوط ولم يضعف أمام مغريات، فنجده عند مناقشة بنود اتفاقية وادي عربية يتحفظ على العديد من بنودها ولا سيما فيما يتعلق بالحقوق المائية للأردن، ويستقيل أو يقال على أثر ذلك من مجلس الأعيان، وتأتي الأيام ويعاني الأردن من أزمة مائية خانقة ليتبين أن موقف الرجل كان صحيحاً 100%. وفي هذه الأيام التي يقف فيها الاردن على مفترق طرق ويعاني من أزمة اقتصادية خانقة وعلاقات خارجية متوترة نتيجة عقم السياسات المتبعة سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، فإني أود أن أتوقف عند محاضرة لدولة السيد أحمد عبيدات كان قد ألقاها في ندوة بعنوان "الديمقراطية والأحزاب السياسية" عقدها قسم العلوم السياسية في الجامعة الأردنية بتاريخ 17/11/1994 حيث قال في تلك الندوة: ((.... فلا بد أولاً من توفر الإيمان بالديموقراطية وبحق الشعب في المشاركة السياسية لدى جميع مستويات الحكم في الدولة والمجتمع قولاً وفعلاً. ولا بد ثانياً من قيام مؤسسات ديموقراطية حقيقة، تؤكد هوية الشعب والمجتمع الأردني، وتعمل عل تعزيز ثقة المواطنين بالدولة، وتعبر بصدق وحرية عن رأي الأغلبية، وتحترم الرأي والرأي الآخر وتصون الوحدة الوطنية في جميع الظروف والأحوال. لا بد ثالثاً من وجود واعتماد سياسات وتشريعات تضمن حرية الانتخاب والتصويت وتمثيل المواطنين تمثيلاً صحيحاً من خلال برلمانات حرة، وتشريعات متطورة تستجيب للحاجات والمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، من شأنها تحقيق متطلبات العدالة الاجتماعية والحفاظ على حيوية ودور الطبقة الوسطى باعتبارها العمود الفقري للمجتمع.

وأخيراً لا بد من وجود حكومات تحترم القانون والنظام وتفوض احترامها، وتحافظ على المال العام، وتعمل بإخلاص مع السلطة التشريعية لخلق الشروط الموضوعية اللازمة للحفاظ على سلامة النسيج الوطني وحماية المجتمع الأردني من الاختراق بأنواعه، وصون كرامة المواطن وتوفير مقومات العيش الكريم والبيئة النظيفة له كحق من حقوقه الإنسانية. وإذا أخفقنا لا سمح الله في تحقيق أهدافنا الوطنية والقومية التي أجمع عليها شعبنا وضحى من أجلها، إن ما نخشاه عند ذلك هو أن تتضاءل خياراتنا المشروعة ليحل مكانها اليأس وفقدان الأمل وما يقودان إليه من الحقد والتطرف والسقوط في دوامة العنف والتمزق، وعندئذ يصبح الحديث عن الديموقراطية إفكاً واستهلاكاً للإنسان وللوقت، واستنزافاً لكل ما في هذا الوطن من طاقات وموارد وفرص، حيث تتحول الديموقراطية إلى حالة عقيمة وتصبح تاريخاً ينكره الأجيال.

وعندئذ تصبح المؤسسات الديموقراطية مجرد واجهات خاوية من أي مضمون دستوري، وتتحول الأحزاب السياسية بعد تصنيفها إلى وطنية وأخرى غير وطنية، إلى تكتلات إقليمية ضعيفة تتصارع وتصبح عبئاً على الوطن، وتستحيل في النهاية إلى أدوات تستغل من أي طرف له مصلحة في اختراق هذا الوطن وتمزيقه.

وبمرور الزمن يتضاءل دور الحكومات ومؤسسة التشريع ويسيس القضاء ويعود القرار الوطني ليستقر في دكاكين الرموز التي تاجرت بمصلحة الوطن وكرامة المواطن، واستغلت الموقع والقرار وفرطت بالمال العام، دون أن يقف واحد منها مرة واحدة أمام مساءلة حقيقية.

وهنا أتساءل: أليس من حق الشعب الأردني في الريف والمدينة والبادية أن يعيش بكرامة على هذه الأرض، وأن ينعم بالحرية والاستقرار في وطنه أمناً من القهر والعبث بمقدراته، وأن يصنع مستقبله وحياته دون عمولات ومديوينة تبدد ذخيرة الحاضر والمستقبل؟ هل يمكن للدولة الاستمرار في تجاهل الحقائق وترك عشرات الآلاف من شبابنا العاطلين عن العمل نهباً للظنون والهواجس يتعرضون لشتى أنواع الانحراف والإحباط؟)). واليوم، وبعد مرور ما يقارب 14 عاماً على تلك المحاضرة، نجد لزاماً علينا أن نقول أن دولته قد قدم تشخيصاً دقيقاً للواقع والمأمول، وإن هذه الأفكار تدل دلالة قاطعة على عمق الفكرة وبعد النظر والحس الوطني المسؤول، وإن نبوءة دولة السيد أحمد عبيدات قد تحقق الكثير منها، ولا أريد أن أعلق أكثر على تلك الندوة، وإنما أترك ذلك للقارئ الكريم ولكن أقول أن صوت دولة السيد أحمد عبيدات جدير بالاستماع إليه لأنه يمثل صوت المنطق والعقل والحكمة والحرص الحقيقي على الوطن ومقدراته والأجيال القادمة ومستقبلها.

وعندما تسلم دولة السيد أحمد عبيدات مسؤولية المركز الوطني لحقوق الإنسان فقد آمن بأن إصلاح حقوق الإنسان في الأردن هي مقدمة ضرورية للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي وإن رؤية المركز لإصلاح حقوق الإنسان في الأردن تمثل بحق رؤية للمشروع الوطني للنهوض والإصلاح.

وفي ظل رئاسته للمركز وانسجاماً مع فلسفة الهاشميين في الحكم والتي تقوم على صون واحترام حقوق الإنسان في الأردن، فقد شهد الأردن نقلة نوعية في هذا المجال، ومن يطالع التقارير السنوية والدورية للمركز، يدرك انسجام هذا الرجل مع نفسه وقيمه ومبادئه، ولا غرابة في هذا الصدد أن نجد سيد البلاد جلالة الملك عبد الله الثاني أثناء زيارته للمركز يدون بخط يده أن القائمين على هذا المركز هم أهلاً للمسؤولية، ومن يطلع على تقارير المركز الأخيرة يدرك أن هذا الرجل لا يساوم على القيم والمبادئ الإنسانية النبيلة المتعلقة بحقوق الإنسان وكرامته.

وهو بلا شك يقول كلمته في كل المواقف دون مساومة أو مجاملة فما بالك إذا كانت المسألة تعني الوطن كياناً وشعباً ونظاماً. لقد آمن رجل الدولة أحمد عبيدات بالديمقراطية كأسلوب حكم ونهج حياة، وبالتالي لم يغب عن المشهد السياسي الأردني فكان له حضوره المتميز.

وقد آمن بدور وأهمية الأحزاب السياسية كرافعة للعمل الديمقراطي، لكنه يوماً لم يؤسس حزباً ليتكئ عليه في سبيل بقائه تحت الأضواء مثلما فعل بعض قادة الأحزاب السياسية في الأردن ولو فعل ذلك لشكّل حزباً جماهيرياً بالمعنى الحقيقي لكلمة حزب.

وآمن كذلك بدور البرلمان في الرقابة والتشريع، ولكنه لم يترشح للنيابة يوماً ويشتري أصواتاً مثلما فعل بعض أعضاء المجالس النيابية منذ عام 1989، ولو ترشح في عمان أو الكرك أو الطفيلة أو معان أو أو، لحصد أصوات أكثر مما يمكن أن يحصل في حال ترشحه في مسقط رأسه في لواء بني كنانة.

وبالرغم من المواقف الجريئة التي اتخذها ودفع ثمن بعضها إلا أنه لم يجنّد يوماً كتاباً وصحفيين للدفاع عن مواقفه وآرائه مثلما فعل ويفعل الكثيرون ولم... ولم...، وهو أيضاً من ألد أعداء التوريث السياسي ولا زال رافضاً لأن يشغل أي من أبنائه أي وظيفة عليا في الدولة الأردنية، يعيش زاهداً في كل المناصب لا يسعى لجاه أو رفعة مقام أو جمع ثروات، أو... أو...

وفي الختام أقول أن دولة السيد أحمد عبيدات يمثل امتداداً طبيعياً لجيل من الزعماء والرموز الوطنية من أمثال حسين الطراونة، وعبد الله التل، ومثقال الفايز، وكليب الشريدة، وماجد العدوان، وناجي العزام، وسليمان الروسان، وهزاع المجالي، ووصفي التل، وغيرهم من رجالات هذا الوطن الذين تبقى أسماءهم وأفعالهم حية في الذهن والذاكرة والوجدان.

ومن هنا، فإننا نطمئن إلى اجتهادات ومواقف دولة السيد أحمد عبيدات ونقلق عندما يغيب عن المشهد السياسي الأردني، فحضوره مصلحة وطنية وضرورة تاريخية ومسؤولية أدبية لا نعتقد أنه سيتخلف عنها، ندعو له بطول العمر وموفور الصحة، نعتز بمواقفه أيما اعتزاز، ولا نلتفت إلى شطط الإعلاميين وتجار السياسة وانفعالاتهم وقصر نظرهم وعجزهم عن فهم رؤى واجتهادات الرموز الوطنية، ذلك أن معاركهم الوهمية التي يخوضونها ويحققوا فيها انتصارات وهمية زائفة لا يمكن أن تخلق منهم إلا أبطالاً وهميين وزائفين لا يمكن أن يحموا الوطن من الأخطار والشرور وإن قالوا أحياناً كلمة باطل أرادوا بها الباطل وتزوير الحقائق وخلطها بالأوهام.

* جامعة اليرموك قسم العلوم السياسية



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد