من الآفات الاجتماعية

mainThumb

26-12-2009 12:00 AM

د. حسن فالح البكور

تستشري في المجتمعات أمراض اجتماعية خطيرة، تفتك بها، وتُنهك قواها، وتحبط عزيمتها، وتفقدها صوابها، وتهدم بنيانها، وتزلزل كيانها، وتكسف شموس نهضتها، وتخسف أقمار طموحاتها، وتحصد في نهاية المشوار أرواحها، لأنها من صنع الإنسان وفعله، قصد من خلالها تحقيق حُلُم زائف، أو التربُّع على كرسيٍّ مهترئة أطرافه, ومسترخية أحشاؤه، أو قضم مالٍ لرفيق غيّ?Zبه الموت أو السفر ، ... الخ .

لعل المتأمل في واقعنا المُعاش, يلمس هذه الآفات الاجتماعية الخطيرة التي تفشّت بيننا، وأرخت لنفسها العنان في السّاحات تسري، وترتمي في الأحضان ضيفة كريمة، يتقاطر أصحابها من كلّ حدب وصوب لتقبيلها، وتقديم السّمع والطاعة والاستماع إلى بيانها والامتثال لأوامرها وتوجيهاتها ، ويسهر الخلق جرّاها ويختصم، ويتسابقون إلى الميادين عملاً بأحكامها، والويل كل الويل لمن يخلع عصا الولاء لتاجها، وينتزع من فؤاده معاصم الحبّ لعرشها .

إنّ تلك الآفات ظاهرة للعيان كالشمس لا تغطّى بغربال ، وما أكثر أولئك الذين على العهد بالله يتكاتبون، ويتشاركون، وإذا ازدهرت المشاريع وحان جني الثمار، تراهم يتخاصمون، وبين يدي المحاكم والقضاء يمتثلون، ولربما تصل الأمور إلى النّفير، ذاك يستغيث بالعشيرة، وهذا عنه ليس ببعيد ، فتشتعل النار بين الفريقين كما في الهشيم، وتُزْهق أرواحٌ وأرواح، وتغصّ المشافي بالمصابين، ويستيقظ صوت العاقلين الذي ما غاب منذ بداية الطريق، ولكنّ الكثيرين صُمٌّ بُكم عُميّ فلا ينصتون أو يفقهون .

وإذا ما مالت بك الأيام يوماً وأزمعت?Z على بناءٍ تأوي إليه، أيقنت أن المشاركة في حربٍ ضروس أهون من ذلك المشروع، لأن من تتعامل معه من المهنيين – إلا من رحم ربي – مُت?Zمرِّس في فنون النفاق، والحيلة، والخداع، والكذب على الدّوام، ويقسم بأغلظ الأيمان وهو في واقع الحال يعلم علم اليقين أنه فاجر فيما يدّعي في كل حال، ولعلك تعرض البناء للبيع على المزاد قبل انتهاء المشوار، أو تسقط في شرك الماكرين من المهنيين ابتداءً من البنّاء ومروراً بالدّهِّين والنّجار والحدّ?Zاد والكهربائي وانتهاء بالبلِّيط، فمواعيدهم جميعاً كمواعيد عرقوب .

وأما الحسد فحدِّث – والعياذ بالله – ولا حرج, فقد اتخذه كثير من الناس مهنة فبئس العمل، فإذا ما شاء الله أن ينعم عليك بأرفع الرُّتب، قذفوك بسيل مـن الألفاظ ينـأى عنها عدوٌّ ما صفا لك قلبه منذ آماد، وإذا أنعم الباري - جلّت قدرته – عليك بمركبةٍ قالوا : لو لم يمل إلى النهب من مال الوظيفة، لما مالت به النفس إلى الحرام، وهم غارقون في بحورٍ من ظلمات الحياة, لا يفرِّقون بين الحرام والحلال، وإذا ما اكتمل الإيمان لدى امرىءٍ خطب الحسناء، رمقوه بأعينهم وقالوا : ما زال في ريعان الشباب فلا حاجة له اليوم بالزواج ، وإذا ما كان المسجد مهوى الفؤاد, رموه بالقصور والضعف والمسكنة، وشرّ?Zحوه بألسنة حِداد، وأذاعوا بين النّاس بيانات من التُّهم, تخرُّ من هولها الهامات ، وتناسى الحاسدون أن الدائرة في الختام على أنفسهم تدور، فهل من مُدرِك لحديثه عليه السلام حينما قال : " لله درّ الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله " .

وأما قذف المحصنات المؤمنات الغافلات، فتلك خصلة كبيرة ومرض خطير, ألقى بظلاله على كثير من الناس, وتفيأوا بخيوطه الواهية التي نسجوها قلائد في أعناقهم وتيجاناً على هاماتهـم ، فغدت مائدتهـم الشهية صباحاً ومساء ، ولحماً يأكلونه بأسنانهم – ويا أسفاه - لا يشبعون، يرون الفتاة في السوق أو المعهد أو الجامعة، فينظموا الأشعار, ويدبّجوا الخطب والحكايات بحقّها من وحي الخيال ، وهي من افتراءاتهم براء، ومن أباطيلهم مثل يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز حينما راودته عن نفسه فقال: معاذ الله ، وفي هذا السياق حدّثني بعضهم أن فتاة وفتى، كانا لا يفترقان يدرسان معاً ويأكلان ويشربان ، ويروحان في السيارة ويجيآن ، والناس تقذفهما بسمّ الكلام وسهام الألفاظ والحراب ، وما دروا أنهما أخوان شقيقان . ألم يقرأوا قول الله تعالى : " وإذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " .

وإذا ما جارت عليك الأيام فقل: يا حيُّ يا قيوم, لا تكلني إلى القرن الحادي والعشرين، وما يليه من عصر ثورة العلوم، ففيه استحال نفر ليس بالقليل, يعبدون الدرهم والدينار ، وربُّ الكون يُعصى جهاراً وفي وضح النهار، جمعوا المال وأودعوه في المصارف والبنوك ، وكنزوا الأصفر من المعادن في البيوت ، وحازوا من الذّهب أواني الشّراب ، وأدّعوا أن ذاك ما كان إلا لجهدٍ متوارث من عهد الآباء والأجداد ، وإن سألتهم يوماً عن حقك في الأموال ، قالوا : محتال يدّعي الفقر ولا زكاة في المال ، وإذا شاهدتهم يوماً عجبت من رثِّ الثياب، وتراودك النفس أن تخلع عليهم من لباس الفقراء والأيتام ، وإن فاجأتهم ضيفاً تحتسي قهوة الأجداد، سيغشاك النُّعاس ولمّا تتذوق طعم الماء ، ولعلّك تطفئ الظمأ بمعسول الكلام .

ويستشعر الكثيرون أن ثمة آفة لا يقلّ خطرها عن سابقاتها ، ألا وهي التزلُّف إلى صاحب الجاه والسلطان ممن خلا فؤاده من خشية الرحمن ، والتقرُب منه، رغبة في التسلُّق إلى منصب يرنو إليه، أو طمعاً في غنيمة من غير وجه حقّ ، وإذا نظرت إلى حال هؤلاء تجدهم يسترقون في المجالس الأحاديث يحفظونها عن ظهر قلب، وقد يدوِّنونها في سجلّ الملاحظات ويوقّتونها بدقة وانتظام، وتخضع فيما بعد لمراجعة وصقل وتهذيب وإسقاط لبعض الكلمات, واستبدال وتزيُّد, لتلقى القبول من صاحب الجاه والسُّلطان ، وعلى استعجال يطوي الكتاب, تحثّه الخطى إلى سيّده المختار والمفضال ، وبين يديه يخطب خطبة عصماء شوهاء معلناً أنه من سبأ جاءه بالنبأ اليقين العظيم ، ويصمت به لحظةً – كأنه فاصل إعلاني – ليلتقط الأنفاس إلى أن يُشار إليه بمواصلة الكلام ، فتتساقط المفردات كجمرٍ ملتهب على قلب المسؤول ، والويل كل الويل لذلك البرئ الغافل الغارق في سباتٍ عميق عمّا يُحاك له في جنح الظلام ، وتبدأ خيوط الانتقام والتدبير لإيقاعه في شرك الاتهام والنصب والاحتيال ، ونتيجة التخطيط ,برئٌ يترنّح في قفص الاتهام بحجّة التمرُّد على لوائح النظام ، وقد تبزغ الحقيقة من رحم الظلم والظلام ,ويتهاوى المتزلّف من برجه العاجي، ليسقط في حفرة أخيه في الإسلام ، عندها ولات ساعة ندم يستذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " من حفر حفرة لأخيه المسلم أوقعه الله فيها " .

ويتسلّل إلى النفوس شرٌّ مستطير طرق الأبواب ، وأيقظ الغافلين وأصحاب الفقر والنّفوذ ، ولم ينأى عنه ذوو الجاه والغنى,وتلحق بهم بعض الجماعات في المؤسسات لعلّ الأحوال ممّا هي عليه إلى المعالي تصير ، ويتوافد الصغير والكبير والمرأة والرجل إلى مراكز التسجيل, يدفعون ببقايا ما يملكون بما يقيم أودهم من كل شهر إلى الثلاثين ,ولا يقتنعون بما يسهمون فتراهم على عتبات البنوك مثل الطوابير لاستلاف القروض ، وتستمّر بضعة شهور ، والأرباح تتساقط في الجيوب كحبات المطر بها يفرحون ويرقصون ، ومن ركب هواه في قارب النّجاة أغرقته سفن التيه والأطماع، فإذا به مع الرّياح يسير، أهله يُدعون إلى النّفير, ويعرضون ما في البيوت من المتاع للبيوع، ويسقط الجميع في فخّ الاحتيال، وفي وهم بورصة الخداع والنفاق ، ويلطم على الخدود من وقع ضحية الأطماع وفريسة الثعالب والماكرين ، وتتقوّص المشاريع والآمال لتلتصق بالأرض من جديد ، وتعود الأحوال كسالف الأيام ، بل أسوأ مما جرت به المقادير ، وتخيّم على المساهمين كارثة نخرت في القلوب, فأودت بحياة الكثيرين ، وتحلّ بهم عاصفة هوجاء فرّ?Zقت بين الأشقاء ، وطحنت رحاها عادات راسخة في العقول ، وتفجّرت من العيون الدّموع ، وتاه بين شوارع القرى والمدينة رجالٌ عضّوا الأنامل, فما عاد ندم يغير المقدور والمكتوب ، وما زالوا حيارى فيما جرت به الأوهام وخبث الطامعين .

إن ما أسلفت من استعراض للآفات الاجتماعية لا يشكّل سوى النزر اليسير مما هو مستفحل في حياتنا ,ومما لا شك فيه أن هذه الآفات داء ينخر في جسد الأمة, يجب التصدّي له بكل المقوّمات والطاقات , لئلا تتهاوى الانجازات ,وتتقوّض عروش النهضة والتقدّم ,نسأل الله تعالى أن يعيننا على الامتثال لأوامره والاهتداء بهديه ,"وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون "صدق الله العظيم



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد