تقاعد النواب والأعيان في الميزان

mainThumb

16-09-2014 03:54 PM

الديمقراطية مذهب سياسي يقوم على إسناد السلطة للشعب أو الأمة , وهي ترمي الى تمتع أفراد الشعب بحقوقهم السياسية بصفتهم أفرادا , والمقصود بالشعب هو الشعب السياسي وليس الشعب بمدلوله الاجتماعي , ومبتغى هذا أن يتولى الشعب بنفسه سلطة الحكم في كل مظاهرها عن طريق اجتماع أفراد الشعب في هيئة جمعية شعبية يقررون فيها القوانين بأنفسهم , ونظام الحكم هذا يسمى بالديمقراطية المباشرة.

على أن التطورات التي مرت بها المجتمعات لم تسمح لهذا النظام أن يستمر سواء كانت هذه الصعوبات مادية تتمثل بالنسبة للعدد والمكان أو صعوبات فنية جعلت هذا النظام عسير التطبيق بالرغم من كونه أرقى الأنظمة التي تعبر من الناحية النظرية عن سيادة الشعب , لذا اتجهت الأنظار نحو نظام بديل ممكن التطبيق وهو الديمقراطية النيابية , وبموجب هذا النظام يقوم الشعب باختيار ممثليه الذين يعتبرون نوّابه , أي أنهم ينوبون عنه  في مباشرة سلطته وسيادته ولمصلحته.


والنيابة بمفهومها القانوني لا تختلف في القانون العام عنه في القانون الخاص فهي سلطة قانونية في تمثيل شخص معين , تنتج هذه السلطة عن عقد بين الأصيل والنائب , يقوم بمقتضاه النائب بعمل معين وفي حدود النيابة التي خولها له الأصيل ولكن أثر هذا العمل ينصرف لمصلحة الأصيل , فالعمل عمل النائب والنتيجة تعود الى الأصيل , واذا جاوز النائب حدود نيابته المرسومة فقد صفة النيابة وبالتالي لا ينتج العمل الذي قام به أثره القانوني بالنسبة للأصيل بل ويعتبر هذا الأخير أجنبيا عن ذلك العمل , واذا كانت النيابة مأجورة فان الأصيل هو الذي يقوم بنفقات هذه النيابة وتكون هذه الأجرة محددة سلفا ولا يستطيع النائب أن يقر لنفسه أجرة من تلقاء نفسه .

وبالتوافق مع أصل النيابة القانوني السابق , تابعت كغيري مسألة قيام مجلس الأمة باقرار قانون التقاعد المدني وتضمينه تقاعدا لأعضاء مجلس الأمة , وأرجو أن يتسع صدر القارئ لما سأبديه من ملاحظات قانونية حول هذا القانون والتي تتمثل بالآتي :

أولا : ان اي تشريع يسنه النائب (مجلس النواب) يجب أن يستهدف مصلحة الأصيل (الأمة) ذلك أن النائب حددت مهمته لخدمة الأمة لا لخدمة نفسه , فالامة لا النائب هي صاحبة ومصدر السلطان والسيادة (المادة 24 من الدستور الأردني ) , وان اي انحراف عن هذه الغاية يجعل اي عمل تشريعي مخالفا لأصل النيابة القانونية , كما ان العمل النيابي هو عمل وطني شريف بامتياز وليس عملا نفعيا , فالهدف منه خدمة الصالح العام ومؤسسات الدولة والأمة بمجموعها لا خدمة مصالح ذاتية ضيقة , خصوصا اذا ما علمنا انه منذ عام 1995 لم يدخل أي موظف مدني او عسكري على نظام التقاعد المدني وان الجميع يستظلوا بمظلة قانون الضمان الاجتماعي .

ثانيا : ان من اهم سمات القاعدة القانونية (التشريع) العمومية والتجريد , ويراد بهما أن يوجه الخطاب في القاعدة القانونية الى الأشخاص بصفاتهم وان تتناول القاعدة الوقائع بشروطها , فلا يوجه الخطاب الى أشخاص معينين بذواتهم ولا الى وقائع محددة بعينها , وبالتالي فان كان الهدف بمجموعه أو بمجزوءه خدمة السبعة عشر نائبا ليتقاضوا راتبا تقاعديا , فان هذا الأمر يجعل التشريع منحرفا عن صفة العمومية والتجريد .

ثالثا : ان سبب اقرار قواعد قانونية جديدة هو ان ظروفا استجدت وهذه الظروف ما عاد يلائمها القانون السابق , مما يقتضي تطبيق القواعد القانونية الجديدة على الوقائع المستجدة لضمان حسن سير العدالة بدرجة أفضل من القوانين السابقة , ومقتضى هذا أن القانون يجب أن يطبق على المستقبل لا على الماضي , وهذا ما يسمى بالفقه القانوني "عدم رجعية القوانين" , وعلى هذا نص الدستور الأردني في المادة 93/2 .


وبالتالي فان امتداد مظلة قانون التقاعد للوراء (لسنة 2010) يجعل هذا القانون مخالفا للأسس المستقرة في التشريع والدستور .

رابعا: ان اقرار قانون التقاعد بصورته الحالية يجعل منه مشوبا بمخالفة دستورية هامة , ذلك أنه يخرق مبدأ الساواة (المادة 6 من الدستور الأردني), حيث أنه يميز ما بين أعضاء مجلس الأمة ويجعل تقاعدهم 7 سنوات وما بين الموظف العادي .

خامسا: ان امتداد مظلة قانون التقاعد المدني ليشمل أعضاء مجلس الأمة بالاضافة الى الموظفين العامين بعني تشريكهم في الحكم والمركز القانوني , وهذا خلط واضح بين النائب والموظف العام بالرغم من التباين بينهما , فقد استقر الفقه الاداري على محددات للموظف العام منها :


أ- أن يعمل في مرفق عام تديره الدولة .


ب- أن يكون ذلك بطريق التعيين من المرجع المختص .


ج- أن يشغل وظيفة دائمة مدرجة على جدول تشكيلات الوظائف .


د- أن يخضع لتوجيهات واوامر السلطة من حيث العمل والعقوبة التأديبية والنقل .


ولما سبق فان المشرع الدستوري في المادة 76 منع الجمع بين عضوية مجلس الأعيان أو النواب وبين الوظائف العامة , وعرف الوظيفة العامة بأنها كل وظيفة يتناول صاحبها مرتبه من الاموال العامة , وهذا يعني ببساطة أن عمل النائب ليس من الوظائف العامة , وهذا يستتبع انه لا يجوز للنائب او العين ان يخضع للقوانين و الأنظمة المتعلقة بالموظفين العموميين , ومثال ذلك : قانون التقاعد المدني و نظام الخدمة المدنية , والأمر يغدو أسوأ اذا جمعنا سنوات خدمة للنائب قضاها في السلطة التنفيذية أو القضائية مع سنوات نيابته , وهذا يعني اننا نعتبره تارة نائبا منتخبا وتارة موظفا عاما يستحق راتبا تقاعديا .

سادسا : لقد كان المشرع الدستوري متوافقا مع نفسه في المادة 52 من حيث عدم اعتبار النائب موظفا عاما وبالتالي عدم استحقاقه راتبا تقاعديا وانما مخصصات (مكافآت) , ذلك أن الفرق كبير بينهما , فالراتب يعني الدورية والانتظام والثبات ويكون خصصا للموظفين العامين مما يستتبع ان من يتقاضاه يستحق تقاعدا وفقا للشروط القانونية , بينما المخصصات فانها لا تعني الدورية ولا الانتظام ولا الثبات , بل الموسمية والانقطاع وبالتالي فان من يتقاضاها لا يستحق التقاعد .

سابعا : ان من يتلقى الرواتب فانه يتوجب عليه ان يدفع عنها استحقاقاتها التقاعدية قبل قبضها , بينما المخصصات لا تدفع عنها هذه الاستحقاقات , وان القول بانه يمكن ان تدفع هذه الاستحقاقات بأثر رجعي هو افلاس قانوني لا يجدي صاحبه , فلا يمكن لمراكز قانونية ان تتكون باثر رجعي .

ثامنا : لا يجوز لمجلس الامة وهو متدثر بسلطته لتي وجدت لحماية الشعب , ان يستغل هذا السيف والذي الاصل فيه ان يشهر على الظلم نصرة للحق , ليتبدل ذلك ويصبح سيفا للاستغلال والانانية وجلب المصالح الضيقة , مما يجعل هذا القانون مشوبا ليس فقط بعيب الانحراف باستعمال السلطة بل عيب استغلالها .

تاسعا : ان الأهم في موضوع تقاعد النواب ليس الكلف الاقتصادية – على أهميتها- بقدر ما يضرب ويهز الثقة العامة بالمؤسسة التشريعية من قبل الناخب والتي يصعب جبرها لاحقا , والتي بدونها لا تكتسب العملية السياسية شرعيتها ومصداقيتها , خصوصا اذا ما علمنا ان فئات اخرى ستشعر بالغبن جراء هذا , فهذه الفئات  ليست وحدها المطالبة بمراعاة ظروف الوطن واقتصاده وشح موارده ( وانه يمر بوضع بائس) , فان كان هذا صحيحا , فان من يعلمون ببواطن هذه الأمور (السلطة التشريعية) مدعوون لمرعاتها من باب أولى , فكيف لا تستطيع خزينة الدولة الوفاء باستحقاقاتهم ولكنها في الوقت نفسه تستطيع ان تتحمل اعباء تقاعد النواب الأفاضل ؟!

عاشرا : ان الاعراف القانونية والاخلاقية تمنع اي شخص من المشاركة والتصويت على موضوع له فيه مصلحة شخصية , ولا يجوز لمثل هذا الشخص ان يشارك في مناقشة هذا الموضوع , وحتى في قانون الشركات فان عضو مجلس الادارة يجب ان ينسحب من الجلسة التي تناقش امرا يتعلق به او له فيه مصلحة مباشرة او غير مباشرة , وكذا الامر عند القضاة وفي الجامعات ايضا .
وهناك من مبادئ الشفافية في بعض البلدان الديمقراطية حين اقرار مجلس الوزراء زيادة على رواتب هؤلاء الوزراء فانهم يشترطون ان لا تنطبق هذه الزيادة على وزراء الحكومة التي اتخذت القرار بل على من يليهم من المجلس القادم .

حادي عشر : ان الامة تأخذ من النائب والعين ميثاقا غليظا نصت عليه المادة 80 من الدستور الأردني بان تكون غاية عمله خدمة الأمة ومصلحتها بامانه واخلاص , فهل هذا من مصلحة الأمة واين الامانة والاخلاص فيه ؟!

ثاني عشر : ان السلطة القضائية حرمت على اعضائها استغلال الوظيفة واستثمارها لمنافع شخصية تعود على القاضي وحتى على أهله وزوجه والمقربين منه وذلك من خلال المواد 28,29,31 من قانون استقلال القضاء , كما جاءت مدونة السلوك القضائي في المواد 17,36,37 لتحظر عليه هذه الأمور وذلك تحت طائلة المسؤولية التأديبية والجزائية .


والأمر كذلك بالنسبة للسلطة التنفيذية حيث جاء قانون العقوبات الأردني في الباب الثالث (الجرائم التي تقع على الادارة) لينص في المادة 176 على جرم استثمار الوظيفة , كما جرم في المادة 182 اساءة استعمال السلطة من قبل الموظف العام والاخلال بواجبات وظيفته لتصل عقوبتها الى الحبس لمدة سنتين .


وبعد هذا , وبعد هذه الحادثة فان الجميع مدعو للمطالبة بوضع قانون عقابي يحكم اداء السلطة التشريعية – شأنها في ذلك شأن السلطة القضائية والسلطة التنفيذية – ليواجه كافة حالات استغلال السلطة لأهداف شخصية لا يكون مبتغاها المصلحة العامة وخدمة الأمة .

ثالث عشر : ان فلسفة الحصول على الراتب التقاعدي هو تحقيق العدالة الاجتماعية لفئة اصبحت غير قادرة على كسب قوتها بعد ان قدمت للدولة ثمرة شبابها فحقّ على الدولة ان تضمن لها ذلك , ورحم الله عمر اذ يقول : اخذناها منك في شبابك ونردها اليك في هرمك , ومن ناحية أخرى فان ضمان هذا القوت يكون بالحد الذي يكفيه لا بالحد الذي يغنيه .


حمى الله الأردن شعباً ووطناَ ومليكاَ .
 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد