فقه الطحالب -المحامي محمد ابداح

mainThumb

26-08-2014 01:06 PM

حينما ينظر عالم الدين في أمر مسألة شرعية ، لم يجد لها إشارة بالكتاب أو السنة النبوية ، فعندئذ لا يمكن تصور حلها دون الرجوع لإجتهاد الأولين وتخريج المتأخرين، كي يبحث عن أصل المسألة، ومن ثم يستخرج لها حكماً شرعياً يدعى بالفتوى، هذا وبكل بساطة هو علم الفقه.

وبعبارة أخرى، فالفقه هو العلم بالشيء واستيعابه وفهمه، واشتقاقه، وفي ذلك دعاء النبي عليه الصلاة والسلام لابن عباس: ( اللهم علمه الدين، وفقه التأويل)، أي فهمه وتفسيره وتحليل معناه بما يُمكنه من استخلاص الأحكام الشرعية المناسبة ، وهو أيضا فهم غرض المتكلم من كلامه، فالفقه لغة يعني الفهم، قال تعالى:( قالوا يا شعيب ما نفهم كثيراً مما تقول)- هود/ الآية 91، وأما إصطلاحاً فهو ( العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية)، ويقصد بالمكتسبة أي المستنبطة من الأدلة القرآنية أو من الأحاديث النبوية الشريفة ، فالفقيه إذن هو العالم المجتهد القادرعلى أصدار الأحكام الشرعية من الأدلة النصية، مما يعني أن الأحكام المتعلقة بكافة العلوم الإنسانية الأخرى كاللغة والطب والطبيعة لاتعد من العلوم الشرعية ولاعلاقة لها بأصول الفقه.

غير أن خروج العلوم الإنسانية الأخرى من فلك علم أصول الفقه الإسلامي، لايعني إقصاءها من دائرة التعلم والبحث، حيث أن أسمى آيات وأهداف تعلم أصول فقه الشريعة الإسلامية بلا شك هومعرفة الله سبحانه وتعالى، والتقرب إليه، وحسن عبادته وطاعته، وقد أمرنا الله سبحانه بالعلم والتعلم والتعليم، فالعلم تذوق ثقافي عام، والتعلم جهد خاص، والتعليم نقل للمعرفة، وجميعها أمور هامة بحق، متصلة لامنفصلة، ولن يتأتى ذلك إلا بالعلم، وإذا ما عرفنا الله حق المعرفة، وأطعناه وعبدناه حق عبادته، وعرفنا أنبيائه ورسله عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام، ومدى حبهم للعلم والتعلم والتعليم، وبأنه قد كان لكل نبي مهنة إلى جانب الدعوة إلى التوحيد، وأن لكل مهنة علوماً أخرى غير تلك المتعلقة بالفقه، كعلوم الفلك والطب والهندسة وغيرها، لذا فإنه ثمة فقهاً آخريشمل علوم الدين الإسلامي وكافة العلوم الإنسانية الأخرى، مما جعل الأمام أبي حنيفة رضي الله عنه يُصّنف كتاباً في أصول الدين أطلق عليه إسم (الفقه الأكبر)، حيث أشار فيه إلى أن الفقه هو معرفة النفس ما لها وما عليها)، وعليه فإن حقيقة المقصود بالفقه يعني عموم الفقه في علوم الشريعة علماً واعتقادا وعملاً،وإذا ما تأملنا التعريف الإصطلاحي للفقه  العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، فإن لفظ العملية تعني المسائل العلمية بجانب الشرعية.

وعليه فإن العقل والإيمان والعمل، هي محركات الدفع لإطلاق طاقة الإبداع الإنساني في سبيل تحقيق أمر الله في عمارة الأرض لما ينفع البشرية، ولايمكن تصور اختزال العلم فقط في باب واحد من العلوم، وغض الطرف عن باقي العلوم الإنسانية، وإلا فستكون النتيجة هي تعطيل الفكر بحجة إثراءه فقهياً فقط ، ويالها من جريمة بحق العقل والعلم والعمل معاً، ودليل ذلك ما وصلت إليه أسئلة طلبة علوم أصول الفقه في كليات الشريعة في المملكة العربية السعودية وغيرها، من تسطيح فكري لايعكس واقعاً معاصراً على الإطلاق، فمن هذه على سبيل المثال إن كانت بودرة الطبشور على السبورة تصلح للتيّمُم ان لم يوجد الماء، وهل ماء الزهر أو شراب العصير ينفع للوضوء!،وهل تؤثر البكتيريا الطبيعية والطحالب على صحة الوضوء وهل يتوضأ اليهود وما هي صفة وضوئهم!.

أن هؤلاء الطلاب الذين يدرسون أصول الفقه والمهتمين بمدى صحة التيمم بمسحوق الطبشور يقومون بغسل سياراتهم الفارهة كل يوم بمياه عذبة، تمكّن مسلمي الصومال المحرومين من الماء والغذاء، من الصمود في وجه المجاعات أشهراً طويلة، لو استمروا على شرب الماء فقط ،كما أن هؤلاء الطلاب يعيشون في بلد تقوم بتعبئة مياه نبع زمزم بعبوات خاصة وتصديرها لجميع انحاء العالم، وتمتلك مضخات لتحلية المياه تغطي احتياجات كامل أراضي المملكة العربية السعودية وأكثر! فما الحكمة من أسئلتهم تلك لولا أن أدمغتهم أُختزلت حتى باتت تسأل عن صحة التيّمم بمسحوق الطبشور!، وهل اليهود يقلقون بنا كيف نتوضأ كما نقلق بهم،أم أنهم يهتمون بما هو أبعد من ذلك كتطوير أصول البحث العلمي وتنمية مواردهم البشرية والطبيعية والإقتصادية، وعلى أية حال فإنه لاضير في معرفة حكم أنواع الماء فالأمرفي غاية البساطة، فقد أجمع فقهاء الأمة الأربعة، الشافعية والحنابلة, والحنفية والمالكية بأن الماء إما طاهر أونجس، والطاهر نوعين، طهورٌ طاهرٌ بذاته مطهرٌ لغيره، والثاني طاهرٌ بذاته غيرمطهرِ لغيره وهو في هذه الحالة كماء العصير طاهر بذاته غير مطهر لغيره، لذا لا يصح للوضوء، هذا وكفى الله المؤمنين شر القتال.

ولكن يبدو أن بعض الفقهاء يأبون إلا القتال والجدال، فيأتي فقيه آخر قائلا: إن الماء النجس هو كل ما وقعت فيه نجاسة غيّرت أوصافه وبات له لون أوطعم أو ريح، والعصير تغير لونه وطعمه وريحه فهل يعد نجساً ؟ فيرد عليه فقيهاًُ آخر قائلا: اسمح لي أولا أن اخبرك بأن الماء النجس هوما تغير لونه أو طعمه أو رائحته وليس ريحه كما ذكرت قبل قليل، فالريح غير الرائحة، ونحن لانعرف ألا ّنوعين للماء، لأن الله ورسوله لم يذكرا لنا غيرماء طهور أونجس, ولم يذكرا لنا شيئًا آخر، والماء الطاهر لا يخلو من حالتين، أن يتغير وصف الماء فيه، أو لا يتغير وصف الماء فيه، فلو وقع ملح بماء طاهر، فهذا لا يغيّر وصفه, فمسمّى الماء لايزال موجودًا, ولايزال طاهراً ويصلح للوضوء، لذا قال صلى الله عليه وسلم بماء البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)، ورغم أن ماء البحر له طعم ورائحة إلا أنه يصح للوضوء، ومعلوم أن ماء البحر لو تذوقته تجد فيه طعم الملوحة، ومع ذلك فلا يُخرجه الملح من مسمى الماء والطهورية، ولذا فماء العصير المختلف لونه أوطعمه أو رائحته، طاهراً ويحتفظ بمسى الماء، أي أنه يصح للوضوء أيضاً!

فيرد عليه فقيهاً آخر قائلاً: إن كان قد غيّر لونه أو طعمه أو رائحته, فإننا لا نسميه ماءًا, ولكننا نسميه باسمه, كأن نقول ماء الزهر أو ماء العصير ونحو ذلك، فهو طهور لوقوع المباحات فيه، ولكنه ليس ماءاً، لتغيّر إسمه ووصفه ، فلا يجوز الوضوء بماء العصير، ودليل ذلك في قول الله سبحانه وتعالى: ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) –الأنفال/ الآية11، فلو أنك لو ذهبت لبئر ماء فأخذت ماءًا عكرًا بسبب وجود التراب فيه وتوضأت، فإن الوضوء صحيح، لأن التراب لايغير إسم الماء ، فلا نقول ماء التراب أو ماء الطين، بل نقول ماء البئر او النهر أو البحر.

ثم يستمر مسلسل الجدل الفقهي، فيأتي فقيه آخر ويقول: بأن الوضوء بماء العصيرأوالزهر يجوز، ودليل ذلك حديث الإمام أحمد من حديث أم هانئ أنها قالت أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة وقد ستر بثوب, فاغتسل من جفنة (إناء) فيها أثر العجين, فوجود هذا العجين بالماء غيّر رائحته ولونه, لكنه لم يسلبه مسمى المائية وعلى هذا فتوضأ النبي عليه الصلاة والسلام من ماء العجين الطهور، فيجيبه الفقيه: هذا الحديث قد فهمناه, لكن قد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الإغتسال في الماء الآسن (الراكد) الذي لا يجري، وماء البئر راكد، فكيف يصح الوضوء منه، وما تقولون في الحديث : (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا, فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)، فهذا دليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما نهى عن غمس اليد في الإناء, بأن هذا الإناء لا ينجس، وإجماعا على أن الماء لا ينجس إلا بتغيّر اللون أوالطعم أو الرائحة، فلم يتغيّر بنجاسة دلّ على أنه تغيّر من الطهورية إلى الطاهر، فيجيب فقيه آخر: ذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية الشافعية ورواية عند الإمام أحمد أن هذا الماء يصح الطهارة به وأن النهي إما أن يكون تعبديًا وإما أن يكون لأن الإنسان حال نومه لا يدري أن باتت يده فلربما وقعت في أماكن قذرة, وهذا أيضًا بعيد, لأن الإنسان ربما يربط يديه ولا يغمس!!,( تأملوا،قد يربط الإنسان نفسه قبل نومه حتى لايضع يده في مكان قذر!) والصحيح والأظهر, أنه ربما يكون الشيطان قد بات في يده كما يبيت الشيطان في خياشيمه، فلأجل مباعدة الإنسان عن مواطن الشيطان, فإنه لا ينبغي له أن يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا, وهذا ليس دلالة على النجاسة, لأنها لوكانت نجاسة لم يقل ثلاثًا, لأن النجاسة متى ما زالت، زال حكمها, فدلّ ذلك على أن المقصود به هو نوع من التعبد.

وسواء أكان الهدف من كل ما سبق الطهارة أم التعبد، فإن العديد من تلك المسائل قد فرضت لظروف قائمة وصعبة لم تكن تتوفر فيها المياه كما هي اليوم، تماماً كما ولو قلنا بأن دراسة أحكام الرقيق أنها ظهرت في زمن كانت فيه تجارة الرقيق غير محرمة، وأن بيع وشراء واعتاق العبيد تقرباُ إلى الله ، كان متاحاً، لكن تجارة الرقيق قد تم تحريمها دولياً ومحلياً، وهي جريمة يعاقب عليها القانون حالياً، وعليه فلا فائدة من إثارة المسائل الشرعية المتعلقة بتجارة الرقيق، كذلك في أحكام ميراث العبيد والجواري، فقد كان السيد يرث مال جاريته أوعبده، أما اليوم فلم تعد هذه الأحكام سارية، ولا ضير في تعلم الدين، (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وكذلك السؤال عن أحكام الشرع، يقول تعالى: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ولكن دون الخوض في مسائل لافائدة منها، قال تعالى: ( استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم )، فلا يتصور قيام مواطن في السعودية أو غيرها، أن يحتاج يوما عصير ليتوضأ ، أويجمع مسحوق الطبشور كي يتيمّم به !. فكيفينا مسخ عقول الشباب يا من تحملون شعلة مستقبل الأمة العربية.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد